لمن تكتب يا أبي؟
الإهداء: إلى من مرّ من هنا وترك أثرا
سهرت كثيرا البارحة، ها أنا أستيقظ متأخّرا والدوّار يعشّش في رأسي، أنجزت أعمالي اليوميّة الصباحيّة، وتناولت أدوية السكّريّ والدم، ثمّ عرّجت على مكتبي، وجدت ابني الأوسط أوس عاكفا على حاسوبيّ الشخصيّ والعرق يتصبّب منه، دنوت بلطف فوجدته منكبّا على مندى القصص القصيرة يتصفّح بعض القصص القصيرة الّتي دوّنتها هناك. لم أرد إزعاجه، لعلّي أردت أن يقرأ بعض ما أخطّ فينقدني، نظرت فإذا هو يدخل المنتدى بعضويّتي، تعجّبت: "كيف شغّلت الحاسوب وأنا أضع له كلمة عبور معقّدة بها حروف وأرقام لا يجمع بينها شيء، وكيف دخلت إلى صفحتي وأنا أشفّرها بتعويذة لا أعلمها إلاّ أنا والدوسريّ؟" رفع رأسه بلطف وهمس: أبي، لم أشغّل الحاسوب، ولم أفتح صفحتك، بل أرقت فرأيت بصيص نور ينبعث من مكتبك، دخلت لعلّي أقضّي معك بعض وقت فلم تكن هنا، وجدت الحاسوب مشتغلا وعلى صفحتك هذه، فرحت أسلّي النفس ببعض قصصك." . راجعت نفسي فتذكّرت أنّه كان في نيّتي الذهاب للحمام والرجوع لقراءة بعض أعمال الأعضاء وإضافة ردود قبل الذهاب إلى النوم، فشعرت بإعياء جعلني أتوجّه من غرفة الاستحمام إلى غرفة النوم.
نظرت إليه نظرة مشجّعة وأردفتها بابتسامة ثقة، عنّ لي أن أسأله: "ما رأيك في ما قرأته؟". هزّ رأسه كمن يطلب نجدة ثمّ قال: " تصوّر يا أبي، لم أفهم كثيرا ممّا تكتبه في بعض التفاصيل، ولكنّ إجمالا أنا فخور بكتاباتك ... " قاطعته: "كفى مجاملة وهات الحقيقة؟".
- أنت تعرف يا أبي أنّي أحبّك وأشفق عليك ...
- تشفق علي؟! ممّ تشفق عليّ؟
- لست أدري يا أبي، ولكن، أراك تنفق عمرك في كتابة قصص لا تجد حظّا كبيرا من القراءة، بل البعض يمرّ واضعا ردودا محنّطة لا تدلّ على أنّه قد قرأ عملك.
- وما المشكلة؟ ومن أدراك أنّي أبحث عن قارئين؟
- لماذا تكتب إذن؟
- أكتب لعدّة أسباب ذاتيّة وموضوعيّة، أي أسباب متّصلة بي، وأخرى متّصلة بالمجتمع وبالحياة وبالآخر.
- ماهي الأسباب المتّصلة بك، وأنت تحمل هذه القصص في ذهنك وبإمكانك الاحتفاظ بها لنفسك؟
- انظر يا بنيّ، كثير من الأفكار والإبداعات تقبر مع أصحابها ولا تجد فرصتها للعبور إلى الآخر لأنّ صاحبها لم يجرؤ على الإفصاح عنها، علما وأنّها كان يمكن أن تفيد الأفراد والجماعة. هذا وأيضا أكتب لأقاوم الموت ...
- تقاوم الموت؟ ألم تخبرنا أنّه قدر علينا وأنّنا جميعا ميّتون؟
- نعم، ولكن لم أقصد هذا الموت الفيزيائيّ، بل أقصدبالموت المضيّ دون ترك أثر في هذا العالم، فكم من بشر مرّ بهذا العالم مرور الغرباء، فلا خبر ولا أثر، بينما رسالة الإنسان تقتضي أن يؤثّث هذا العالم بما يمكث فوق الأرض وينفع الناس بشكل أو بآخر، انظر سير القدماء وتاريخ الفكر البشريّ والحضارة، ستجد أنّنا نجد نعيما وملجأ في بعض حكمهم وفنونهم وعلومهم.
- لكن، أبي، أنت لا تقدّم علوما يمكن أن ينتفع بها الناس.
- كلامك صحيح إلى حدّ ما، ينظر الناس إلى العلوم باعتبارها تكنولوجيا وفيزياء وإعلاميّة وبرمجيّات، ويتناسون العلوم الإنسانيّة مثل اللغات وفنّ القول وعلم النفس الّذي يمكن أن يكون في شكل قصّة أو رؤية فنّية يقصدها الإنسان فيجد فيها إجابات عمّا يؤرّقه من تساؤلات شتّى. قد نقصد أثرا أدبيّا بحثا عن قاعدة في اللغة غابت عنّا، وقد نأحذ شحنة معنويّة من بطل حكاية تجعلنا نخوض التحدّيات ونخرج من دائرة العجز والضعف، ...
- أبي، أريد أن أصبح كاتبا.
- هذه تلزمها حكاية أخرى، لأنّ الكتابة زاد وفنّ وإتقان.
(انتهت)
عبدالقادر بن عبدالخالق
أكودة في 02 سبتمبر 2021