إنه عام 1860، وعالم الطبيعة الفرنسي "هنري موهوت" لا يزال في بحثه المضني عن حشرات نادرة في الأحراش الكمبودية، وإذا به بغتة أمام واحدة من أبهى المآثر المعمارية؛ "أنغكور وات" أو "مدينة المعابد"، المدينة التي كانت في تعداد المدن المفقودة لزمن وانسحبت إلى صومعتها في أعماق الغابات أفاقت من سباتها بعد مرور موهوت، ليُعاد تعريفها إلى العالم بعد ما يزيد على أربعة عقود في طي النسيان.
تحوي المدينة أحد أكبر الأنصاب الدينية في العالم إن لم يكن أكبرها، وهو معبد أنغكور وات. تظهر واجهته على العلم الوطني لكمبوديا، وسُميت المدينة تيمُّنا به، وقيل عنها إنها نسخة مصغرة من الكون، وإنها تُمثِّل نموذجا أرضيا للعالم الكوني. وكما رمّم علماء الآثار المدينة، نسب كثيرون إلى أحجارها الصماء وتاريخها قصصا وأقاويل وتساؤلات عما حل بشعب أنغكور وات وكيف هُجرت تلك المدينة.
"رأيت مدنا بلا حصون ومدنا بلا قصور، لكني لم أجد قط مدنا بلا معابد".
(المؤرخ بلوتارخ)
في البداية ظن "موهوت" أن ما رآه ليس سوى جزء من مدينة عظيمة تقع على امتداد البصر (1)، لكن الحجارة كانت في جميع الأركان، استطاع أن يميز قلة من الرهبان والسكان المحليين الذين يقطنون على مقربة منها. لم يملك أحدهم أدنى فكرة عمّن قام ببنائها وكيف وُجِدَت، وانبثقت أسطورة أن المعبد العظيم الذي يتطابق مع اسم المدينة وُجد بين ليلة وضحاها. ومهما يكن، فقد أعلن "موهوت" عن اكتشافه، الذي أحدث ضجة في أنحاء أوروبا، ليحزم مستكشفون ومصوّرون أمتعتهم مُولّين وجوههم قِبَل المشرق.

بعد عام قضت حشرة سامة على حياة "موهوت" في تلك الغابات، وعثروا عليه جثة هامدة (1)، لينسحب "موهوت" من المشهد مُفسِحا المجال للتنقيب عن تاريخ مدينة "أنغكور وات". ويعني ذلك الاسم الحديث "معبد المدينة"، "أنغكور" هي كلمة عامية مشتقة من الكلمة نوكور المأخوذة من الكلمة السنسكريتية "ناجارا" بمعنى العاصمة، أما "وات" فهي كلمة خميرية تعني "معبدا". وصف "موهوت" النقوشات بأنها تضاهي تحف "مايكل أنجلو". كان لا بد من دراسة المنحوتات والجداريات التي غزت معابد المدينة للإلمام بتاريخها وحضارتها، لكن المعضلة هنا أن الكتابة مختلطة، هناك اللغة الكمبودية القديمة ولغة الكهنوت الخاصة بالهندوس.

ظلت الكتابات بمنزلة أُحجية، حتى جاء عالم فرنسي يُدعى "جورج سور ديس" لينفض عنها شيئا من الغموض، ويترجمها في سبعة مجلدات سميكة (2)، مما جاء فيها أنه لزهاء ستة قرون اعتُقِد أن "أنغكور وات" كانت معقل الخمير (السكان الأصليين لكمبوديا)، بل وربما أكبر عواصمهم، التي كانت في ازدهارها مدينة ضخمة تعادل اليوم مساحة مانهاتن، أشهر مناطق مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية (3).
رسّخ "تشو داجوان" تلك الحقيقة، وهو مسؤول صيني صغير انتُدب إلى مدينة "أنغكور وات" عام 1296. خلال زيارته التي استمرت لمدة عام، عرض تفاصيل الحياة هناك، واصفا المدينة بـ "المزدحمة، النابضة بالحياة" (4). لم توضع كتاباته محل ثقة بالكامل لما بها من خيالية، إذ كتب أن المعبد الرئيسي قد بُني على يد معماري صيني فذّ أنجزه في يوم واحد، ومضى في لصق صفة البربرية على السكان الأصليين. لم يُولِ علماء الآثار اهتماما لكتاباته إلا بعد عقود، ففي تنقيبهم عن دليل يؤكد صحة كلماته تأكدوا أنها لم تخلُ من حقيقة.
قبل وصول "داجوان" بآلاف الأعوام، كان الخمير ينعمون بحياة متواضعة، يزرعون الأرز ويحصدونه، من منبع الماء العذب يرتوي الزرع والإنس، يصطادون الأسماك ويأكلونها مع الأرز، ويعم الهدوء في محيط لا يخلو من صفاء. وفي القرن الأول الميلادي، نمت ممالك متناحرة في جميع أرجاء البلاد. بعد سبعة عقود، وصل ملك مَهيب. هجر ذلك الزعيم موطنه، آمرا جميع رعاياه أن يعبروا برفقته نهرا متجهين في مسيرة كبيرة نحو الغرب، إذ أزمع على إيجاد أرض خصبة، وقد عثر على ضالّته بين علمين مقدسين، هما ربوة تل وبحيرة واسعة، اللتان ستكونان إطلالة مثالية لِحصنه الجديد. لم يكن ذلك الرجل سوى "جايافارمان" الذي توّج نفسه ملكا وأطلق على نفسه لقب ملك الملوك أو الإمبراطور، كان طموحه يفوق تولّي مقاليد السلطة، فقد نصَّب نفسه إلها وكان على الرعية أن يُذعنوا له.

في العقود الخمسة اللاحقة، نجحت سلالته في البقاء في الحكم بمنهجية، وبدأ الملك "سرفارمان الثاني" في إقامة معبد "أنغكور وات" بعد وقت قصير من صعوده إلى العرش. كانت الخلافة الملكية في إمبراطورية الخمير شأنا عنيفا، ولم يكن صعود "سرفارمان" استثناء، ففي سنوات مراهقته قتل عمه الأكبر في معركة للاستيلاء على العرش (5). النقوش التي توضح صعود "سرفارمان" إلى السلطة تُشير إلى توحيد فصيلين معارضين، مما يرشدنا إلى فترة من الوحدة النسبية والاستقرار.

شهد حكم "سرفارمان" دموية؛ إذ شنّ هجمات على فيتنام في محاولة للسيطرة على المنطقة، كما حقّق تقدُّما دبلوماسيا سلميا وأعاد فتح العلاقات مع الصين (6). وكانت المدينة مهدا للديانة الهندوسية، لذا قام حاكمها بتكريم الإله فيشنو، وهو إله غالبا ما يُصوَّر على أنه حامٍ، وقام بنحت تمثال للإله في مركز المعبد. إن ما يُمثِّله المعبد كله هو جبل ميرو وجبل أوليمبوس مقام الآلهة القديمة، وترمز الأبراج الخمسة التي تُشكِّل مربعا في المنتصف إلى قمم الجبل الخمسة، ويرمز الخندق المائي والجدران إلى المحيط وسلسلة الجبال المحيطة (7).
من الناحية الرمزية، الغرب هو اتجاه الموت، لذا قد يكون معبد "أنغكور وات" صُمِّم ليكون ضريحا (8)، فالنقوش البارزة للمعبد صُمِّمت بحيث تُعرَض في اتجاه عكس اتجاه عقارب الساعة، وهي ممارسة لها سوابق في الطقوس الجنائزية الهندوسية القديمة. على الأرجح إذن "أنغكور وات" شُيِّدت خصيصا لتكون مدفنا لـ "سرفارمان الثاني". لكن الأمور لم تسر كما خطط الملك، إذ لم يُدفن هناك أبدا، بل مات في معركة خلال رحلة استكشافية أخفق فيها في إخضاع الفيتناميين (9).
في نهاية القرن الثالث عشر، قام الحاكم "سرندرفرمان" زوج ابنة الملك "جيافارمان" بخلعه عن الحكم، وكان "سرندرفرمان" قد قضى السنوات العشرة الأخيرة في سريلانكا، وعُيِّن فيها راهبا بوذيا، فقرّر أن يُبدِّل الديانة الرسمية للإمبراطورية من الهندوسية إلى البوذية التيرافيدية (10)، ومما سهّل عملية تغيير الدين هو تفشي الفساد السياسي، ليتحوّل "أنغكور وات" من معبد هندوسي إلى معبد بوذي.

"أنغكور وات" هو مثال حي على أصالة فن العمارة الخميرية الذي يُعرَف اليوم باسم المعبد والمدينة. اتُّخذ من الحجر الرملي مادة أساسية للبناء، وصار بديلا عن الطوب أو الصخور الرملية الحمراء، فبُنيت به أغلب المناطق الظاهرة والجدار الخارجي وأجزاء البناء الخفية. وقد استوحت أروقة المعابد من الفن الهندوسي القديم في جنوب الهند، وبات تناسق التصميم محل مقارنة بالعمارة اليونانية والرومانية.

لا يبتعد التصميم في خصائصه الهندسية عن الطراز القوطي، من الأبراج المسننة على شكل براعم اللوتس، وأنصاف الأروقة التي تعمل على توسعة الممرات، والأروقة المحورية التي تربط السياج، والشرفات الصليبية الشكل التي تظهر على طول المحور الرئيسي للمعبد. وتعتبر تماثيل أنغكور وات تقليدية، حيث تتميز بالجمود، وهي أقل جمالا من التماثيل الأقدم، فقد حطّم الابن "سرندرفرمان" الذي اعتنق البوذية تماثيل عديدة صُنِعت في عهد أبيه على الطراز الهندوسي (11). أراد استبدالها بتحف بوذية، لكن المحصلة كانت متفاوتة، ليظهر تصميمان مختلفان جذريا صُنعا في مكان واحد من قِبَل أشخاص وزمن مغايرين. دُمِّرت بعض عناصر التصاميم بسبب النهب أو مرور الزمان (12)، ومن ذلك نقوش الجص المطلية بالذهب على الأبراج، وطلاء الذهب على بعض النقوش البارزة وألواح السقف الخشبية والأبواب (13).
بلغ تأثير فن العمارة الخميري مصر، فيُعَدُّ "قصر البارون إمبان" في مصر الجديدة إحدى التحف المعمارية الفريدة من نوعها، حيث استلهم البارون بناء القصر من معبد "أنغكور وات"، مستوحيا تصميمه من العمارة الهندية (14)، وقيل عن القصر إنه الوحيد في العالم الذي لا تغيب عنه الشمس طوال النهار.
يشتهر المعبد بالنحت الحجري على جميع الأسطح والأعمدة والأسقف، أفاريز بارزة مُزيَّنة بنماذج من رسومات الأرواح الحارسة والحسناوات، بالإضافة إلى مجموعة محيرة من الشخصيات الحيوانية والبشرية والرسومات القصصية. وكانت إمبراطورية الخمير يتخللها العديد من الألعاب والمهرجانات وعروض الألعاب النارية والرقصات والاستعراضات الملكية. وفي سبتمبر/أيلول من كل عام، كان يُجرى تعداد على جميع سكان المملكة والقدوم إلى العاصمة لمراجعتهم قبل القصر الملكي وإحصائهم.
نقلت تلك الرسومات ملاحم مثل "رامايانا ماهابهاراتا"، وزخارف مجردة مثل زهرات اللوتس والأكاليل (15)، كما أعادتنا إلى لحظات من الحياة اليومية العادية في الماضي السحيق، الاقتصاد فيها معتمد على التجارة مع الصين بشكل أساسي، والنساء يتمتعن بمكانة عالية، ويُعرَفن بالقوة، يعملن تاجرات وفي حراسة الملك، ويسعى الصينيون المنتدبون إلى المدينة للاقتران بهن.


كان السوق موقعا مركزيا في المدينة، يُفتح في الصباح الباكر، وتوجد فيه بشكل دائم الأسماك والخضراوات والفاكهة. غالبا ما كانت عملية الشراء تجري بالمقايضة (16)، وكانت الأساور الفضية تستأثر على اهتمام النساء، وإذا تمتعت المرأة بجمال باهر يرسلونها إلى المحكمة لخدمة الملك والعائلة المالكة.
وصف الدبلوماسي الصيني "تشو داجوان" ملابس الخمير في كتاباته قائلا إن القماش نُسِج وأُنتِج محليا، ولكن استُورِدت ملابس أكثر أناقة بدعوى أنها جاءت من سيام وتشامبا ومن البحار الغربية، مما قد يعني الهند أو الملايو (17). ومضى في شرح كيف داووا قديما أمراضهم وجراحهم الغائرة، راويا أنه في علاج عدة أمراض اتبع شعب كمبوديا طريقة الغمر في الماء وغسل الرأس مرارا وتكرارا. وعلى طول الطريق قد يلتقي المسافر بالعديد من المصابين بالجذام، الذي هو نتيجة الظروف المناخية، كما كان معتقدا عندهم. وبحسب بعض المصادر، قد يكونون قد بنوا عددا من المشافي.
تأتي منازل عامة الناس في المستوى الأدنى، فقد استخدموا القش للأسقف فقط ولم يجرؤوا على التمادي. فرُغم أن أحجام منازلهم تختلف تبعا لمدى ثرائهم، فإنهم لم يجسروا على محاكاة أنماط المنازل العظيمة. لذا تتكون منازل العائلات العادية من الطاولات والكراسي والدلاء، وقدر من الخزف لطهي الأرز والصلصة، وتثبت ثلاثة أحجار في الأرض للموقد. عند تقديم الأرز يستخدمون الأواني الفخارية أو النحاسية المستوردة من الصين؛ في حين تُقدَّم الصلصة في وعاء صغير محكم الصنع من أوراق الشجر، كما أنهم يُشكِّلون ملاعق صغيرة من أوراق نخيل نيبا وقشور جوز الهند التي تصلح للاستخدام مرة واحدة (18). لا شك أنهم استلقوا يوما وحدقوا إلى شقوق وثغرات القش الذي يغطي سقوفهم، ربما يكونون في لياليهم المؤرقة قد رأوا طرفا من ثوب الأجرام السماوية، أو هوت عليهم نجمة في بهيم الدجى، أو أطلقوا العنان لخيالهم سابحين في الفضاء.
في جدارية "إله الشمس" ترتكز تسعة أجسام أخرى عليه، في إسقاط على نظامنا الشمسي والكواكب. إن كانت تلك القراءة صحيحة، فإن ذلك يعني أن اكتشافهم كان سابقا لأوانه، تدلنا النصوص أن "بلوتو" لم يُكتشف قبل عام 1930، ولم نسمع بـ "نبتون" إلا قبل 400 عام، لكن في أنغكور وات قد يكون حدث وأنهم كانوا على دراية بها قبل تسعمئة عام (19). لاحظت الباحثة "إليانور مانيكا" أن أنغكور وات تقع عند خط عرض 13.41 درجة شمالا، وأن المحور الشمالي الجنوبي لغرفة البرج المركزي يبلغ طوله 13.43 ذراعا. كتبت "مانيكا" أن هذا ليس من قبيل المصادفة: "في الحرم المركزي، لم يُوضَع إلههم فيشنو عند خط عرض "أنغكور وات" فحسب، بل وُضِع أيضا على طول محور الأرض"، مشيرة إلى أن الخمير كانوا يعرفون أن الأرض كروية (20).
بالإضافة إلى ذلك، لاحظت "مانيكا" في كتاباتها عشرات المحاذاة القمرية مع أبراج أنغكور وات، مما يُشير إلى أنها أدّت دورا فلكيا مهما. "خلال الليالي الكمبودية الطويلة والصافية، عندما ملأت النجوم كل شبر من السماء السوداء، وقف الكهنة على الجسر الغربي الطويل وسجّلوا تحركات القمر". (20)


كانت "أنغكور وات" إذن حضارة متطورة من الممكن أن تستوعب الألوف بسهولة، وقيل إن تعداد ساكنيها كان يقارب المليون قبل اندثارها. فما الذي حدث؟ يجيب "دان بيني"، الخبير في التاريخ البيئي الذي درس حضارة أنغكور لسنوات عديدة: "إن الأضرار التي لحقت بالمدينة في الماضي القريب هي تذكير بأنه بينما كان الماء هو أساس المدينة، كان أيضا عاملا ساعد في تدميرها" (21).
ظل السبب القطعي لزوال إمبراطورية في أوائل القرن الخامس عشر لغزا، لكنّ الباحثين أظهروا بالفعل أن الأمطار الموسمية الغزيرة التي أعقبت الجفاف الطويل في المنطقة تسبّبت في أضرار واسعة النطاق للبنية التحتية للمدينة مما أدى إلى انهيارها (22)، فلم يتمكّن الأشخاص الذين كانوا يعيشون هنا في ذلك الوقت ببساطة من إصلاحها.
في القرن الخامس عشر قام آخر ملوك المدينة بمحاولة يائسة لإنقاذها تتلخص في القصة التالية؛ كان من المعتقد أن في كل ليلة، حينما يذهب الملك إلى فراشه يأتيه جنّيّ على هيئة امرأة جميلة، إذا انقطع الجني عن الملك فذلك إيذان بموته الوشيك، وإذا عجز الملك عن الحفاظ على هذا اللقاء، فسوف يحل به هو ومَن حوله الهلاك (23). في تلك الليلة ربما كان الجني على دراية بمطلب الملك أن يمد له يد العون. تخلّى الجني عن الملك للمرة الأولى ورحلت الآلهة عن المدينة.

نزح السكان تباعا، وتخلّى التجار عن "أنغكور وات" بحثا عن مراعٍ أكثر خضرة وأراضٍ ساحلية على مقربة من البحر، ليحققوا أكبر أرباح ممكنة في تجارتهم مع الصين، وضاق الناس من الازدحام والحاجة إلى المزيد من الموارد التي بات من الصعب الحصول عليها يوما بعد يوم (24)، ثم أتى الجفاف ليفاقم المشكلات المتراكمة للسكان، فقد ترك الجفاف نظام المياه داخل المجمع معطلا تماما، فكان إهمال النخبة الحاكمة وعدم تقرير مبادرات تحد من معاناة مواطنيها هو المسمار الأخير في نعش حضارة "أنغكور وات".
لم ينتهِ ما كابدته المدينة إلى هذا الحد. كرّس بعض الرهبان أنفسهم للحفاظ على مئات المعابد، تشابكت النهايات والبدايات، عادت الحياة بسيطة كالسابق لكنها أكثر مشقة. وفي أواخر القرن السادس عشر، عاثت إمبراطورية أيوتهايا دمارا في كمبوديا وأدى غزوها إلى نزوح جماعي للسكان المحليين، مما أجبرهم في المنطقة على التخلي عن موطنهم بحثا عن الأمان. وبعد أعوام مديدة ستطأ أقدام الخمير الحمر المتطرفين الشيوعيين المكان بزعامة الديكتاتور الدموي "بول بوت" الذي لن يمارس فيها عمليات تخريبية فحسب، وإنما سيطوق هو وجيشه المدينة بآلاف من الألغام الأرضية.
مدت الطبيعة راحتها للمدينة المكلومة، ضربت بجذورها في أراضيها وجعلت من غاباتها حاميا بجانب الخندق المائي الذي حافظ عليها. هل تساءلت المدينة يوما بعد كل ما لحق بها إن كان مقدرا لها أن يحكمها مجموعة من الإقطاعيين الحمقى تسوقهم أطماعهم؟ ملوك قادتهم أوهامهم فحكموا بها المدينة، اتفاقا مع قول ابن عطاء "ما قادك شيء مثل الوهم"؟.
إن الجمال البادي لـ "أنغكور وات" اليوم بعد سنوات من عمليات الترميم مُشيَّد من تاريخ مظلم، ونظام حُكم قهر رجالا أحرارا وأحنى كواهل وقامات من التعب وذل العبودية، مَن فرَّ منهم قُطعت أذناه وفُقئت عيناه، إنها أزمان بعيدة تقلبت الحياة فيها بين الضيق والصفو، وتناقلتها الحكايات الشعبية الكمبودية.
—————————————————————————-