" و تتربعين يا عائشة القزحية من خلال أقواسك على الضفة الشمالية لصدر ذاك الجبل الذي لا يثمر غير الأحاسيس المرهفة و هو العاشق المجنون يرنو اليك
من أعلى سطوح الدور القديمة القابعة داخل أسوار الحياة الماضية ، و يبقى صوته المتعثر في بكائه يصل اليك مؤثرا كنت و لازلت تتبادلين معي مواقع القلبين .
تنظرين الى حالي كالراضية بما أصابني من عمى ، فاذهبي الى هناك حيث ترمي بك الأمواج في اتجاهي ، يا من رحلت و تركتني وحيدا و يتيما ، فقلبي لن يدق
إلا شوقا اليك و هذه عيناي قد أصيبتا بالعمى إلا عن صورتك و أنت تتمسكين بي و أنا أهم أن أمد اليك يداي لكني لا أراك ، ليبق الفراق و الألم ، و ياليت شعري
و أية سنة سنها العاشقون في دنيا الحب و الجنون . رحمات ربي و مغفرته ستحفك في كل مكان و مقامك الجنة يا من سكنت قلبي."
بهذه الكلمات كان أبو أمجد يعجبه أن يرثي زوجته المتوفية مؤخرا بعد حياة مفعمة بالحب و العطاء و الحياة و طاعتها العمياء له . قبل أن يفقد البصر نهائيا كان يمضى
لوحده لزيارة قبرها ، و كان يتأمل تلك القبب الخضراء التي تتوسطها قبة شاهقة مزينة بالنقوش القديمة ، استوطنها الغبار فصارت غبراء توحي بالقدم المقدس .
في كل زيارة كان يعيش لحظات للذكرى و أخرى للدعاء مع روح الفقيدة . فيتذكر كيف التقيا لأول مرة و تزوجا و خلفا و أسسا أسرة من خمسة أفراد هو
و المرحومة زوجته و بنتان و ولد سماه أمجد . كانت المرحومة هي محرك حياته ، العين التي بها يبصر، و عكازته التي بها يتحرك ، و وردته التي تمده
برائحة العطر بل و قمره الذي يناجيه كل ليلة . عاشا حبا كبيرا فجاءت لحظة الرحيل بل لحظة الفراق الأبدي ، فافترقا هي رحلت الى مثواها الأخير ، و هو مضى بين
عتمات الزمن و دهاليز الدنيا و هو يجرجر ذيول هزيمة لم تخطر بباله يوما ، إنها هزيمة الحياة حيث أصبح من الضروري أن يعتمد على عكازته و على أبنائه
من أجل الحركة .كان يأخذه الحنين الى مقهاه المفضل فينادي إحدى بناته لتساعده و تؤمن له الوصول بسلام الى ذاك المكان الذي قضى به لحظات لمواعده مع الأصدقاء
هناك كان يستعيد بعض ذكرياته معهم و بالأخص كان يتذكر كتاباته و إبداعاته الأدبية ، فيسبح بعيدا في عتمة الحاضر كي يستعيد بعض ذكرياته .
و ذات صباح توجه بمعية بنته الكبرى رباب الى المقهى و حين استقر على الكرسي جلست رباب بجانبه فوقف النادل مسلما عليهما :
- كيف حالكما عمو حدو ، و أختي رباب
- الحمدلله بخير و على خير ( رد أبو أمجد )
النادل : طلباتكما
أبو أمجد : قهوتي المعتادة
رباب: - عصير ليمون أخي
أخرج عمو حدو مجموعة أوراق من محفظته ، و طلب من رباب تحديد ورقة رسم عليها ضريح مقابل وجه امرأة ، بعد بحث دقيق وجدت رباب الورقة
فقالت له : هذه هي الورقة يا أبي
قال لها : و أنا الآن ضرير لا أرى شيئا إقرئي عني مضمون هذه الورقة التي كتبتها يوما ها هنا و أنا في كل قواي الصحية و العقلية
أخذت رباب تلك الورقة و بدأت تقرأ : أي لحظات تشكلت في حضرة امرأة في الثلاثين ، و الشعر قطعة من ليل مقمر يليه فجر وردي ، الرموش خيوط من أحاسيس مرهفة
تمتد في النفوس فتربط العين بالعين ، و تصل لحظة السنا بنياط القلب . أي حقول خضراء مترامية الأطراف على امتداد هذا المدى ، فلتبرقي يا سماء
و دعي الرعد يدوي و السحاب تنسكب دموعه و تسكب غيثا أو مطرا ، و لتشربي أيتها الأرض العطشى حتى الثمالة .
كنت لا أزال مستلقيا على السرير بجانبها حينما ابتسمت و قلت لها : أنا إسمي حدو و لست وليا و لا صالحا بل أنا مجرد كاتب لكلمات قزحية تدخل القلب كالنبض
في ليلة السعادة ، أنا شاعر يعيش في مملكته بين دواوينه ، يرسم في محراب شعره صورة للعشق و أخرى لامرأة سكنت بين أضلعه ، و هي أثناء ذلك كله
كانت تبتهل و تدعو لي قائلة : رحمة ربي نزلت عني أنا مريم هذا القرن بدون منازعة و أنت روحي الطاهرة ، أنت زوجي الحبيب فأنا دونك خواء في خواء ...
ابتسمت رباب و هي تكتشف و لأول مرة رومانسية والدها بين أوراق منسية مجللة بالغبار ، و هو يحاول إيقاظ ذكرى عميقة ، إنها ذكرى المرحومة والدتها
فأجهشت بالبكاء . أحس أبو أمجد أن عين رباب تدمع و قلب يخشع في حضرة هذه الأوراق . فنطق قائلا : أبدا يا ابنتي عبر قراءتك كنت أستحضر بعضا من الزمن الجميل
أنا و المرحومة أمك . جمعنا حب حقيقي و عشنا الأفراح و الأحزان بقلبين اثنين و لكن بمشاعر واحدة ، عشنا الحب الحقيقي و عند رحيلها شعرت باليتم المحقق .
بعد تلك الجلسة المليئة بالذكريات رجع أبو أمجد و رباب الى المنزل و في نيته أن يخصص الغد لزيارة قبرها ...

كان الصباح من صباحات الجمعة فقرر زيارة قبر زوجته ، هذه المرة عوضا عن رباب طلب من أمجد أن يصاحبه الى المقبرة ، و بعد تردده وافق تلبية لرغبة أبيه
فخرجا في اتجاه المقبرة ، في الطريق كان أمجد يتابع أحد أفلامه المفضلة على هاتفه ( الموبايل ) و الأب يمشي بجانبه معتمدا على عكازته . في كل خطوة كان عمو حدو
يعاود التفكير في أوراقه القديمة ، تلك الأوراق لتي تحمل بين طياتها حياة بأكملها ، لحظات حياتية بحلوها و مرها ، فندم على عدم نشرها آنذاك ليشهد العالم
على حب سيظل حيا . و في لحظة من اللحظات تحسس أبو أمجد الطريق بعكازته فتأكد أن هنالك حفرة فوقف و هو ينذر أمجد قائلا : - دير بالك إبني قدامنا حفرة -.
و هكذا بفضل العكازة اصبح الضرير مبصرا و بضلال الهاتف أصبح المبصر ضريرا . انتبه أمجد فوجد نفسه على شقى حفرة عميقة ، و لولا بصيرة أبيه
لَلَبِث في الحفرة الى يوم يبعثون .