وأنا اتمشى بين طاولات المطاعم الممتلئة بأشهى الطعام، رمقت صديقي يحاول جاهدا الحصول على لقمة يسد بها رمقه، ما إن لمحني حتى تجهم في وجهي قائلا: - ما الذي أحضرك في هذا الوقت؟ أجئت تزاحمني في لقمتي؟ ابتسمت وانا أتجشأ وأجبته بتواضع: - لا الحمد لله اكلت حتى امتلأت تحسر طومي على وضعه فصاح: - منذ أيام وأنا على هذه الحال، أعاني قلة الرزق هنا. سأغير هذا المطعم بغيره اذن ضحكت لبساطة تفكيره ساخرا، ثم مددت جسدي السمين وقلت: - لقد استحوذ كل منا على مكان، لا تتخيل أن يقبلك غيرك منافسا او شريكا. ألا تذكر ردة فعلك ما إن لمحتني بمطعمك في هذا الوقت؟ اتكأ على جانبه الأيسر مستسلما وقال: - ما الحل إذن؟ ساموت من الجوع. اقتربت منه متخذا وضعية الاستاذ الحكيم وقلت: - أخذ لقمة يتعين وضعيتين لا ثالث لهما، إما أن تكسب تعاطف الزبناء فيتخلوا عن بضع قوتهم ليطعموك رأفة بحالك، وإما أن تزعجهم وخاصة النساء منهم فيستغنين عن قسم من قوتهن ذاك ليرتاح بالهن من مرورك قرب أقدامهن كل حين. رد طومي بكبرياء: -تعلم أني لن أزعج احدا ولن أتذلل أمام احد. بتهكم قلت: - لما ترثو حالك هذه إذن؟ فهي نتيجة كبريائك لا غير تمعن النظر في مطولا بعينيه الزرقاوين، بعدها انتفض من مكانه وقال: - هناك سبيل ثالث لم تذكره لي بحيرة سألته: -ما هو يا أبا العريف؟ رد طومي بثقة: - أن أعمل بجد لنيل لقمة عيشي بشرف وبعرق جبين سألته بتهكم: - انا لك هذا يا بطل؟ في مكانك هذا لا سبيل لذلك. رد بحزم: - سأغير مكاني إذن، سأخرج إلى السوق، أصيد فئرانه فأملأ منها بطني، و حتى من مالكي المتاجر سأنال من سمكهم ودجاجهم ما يكفيني، سيتوسع رزقي هناك بدل هذا الجوع الذي أعانيه هنا. قهقهت لجرأته وقلت محطما آماله: - هل تظن نفسك بشراسة ومهارات قطط السوق؟ ما أنت غير قط أليف ابن مطاعم. حد طومي نظره صوبي وتأهب للذهاب للسوق دون أن يكمل حواره معي، استوقفته قائلا: - لا تأخذك العزة وتدخل نفسك في معركة خاسرة. استعد لها أولا، اسمع يجب عليك أن تكتسب المهارات اللازمة لخوض تجربة الأسواق، وعن نفسي سأساعدك بالاحتفاظ لك بجزء من قوتي اليومي. لا تحمل هما لطعامك أثناء تداريبك. ثم أكملت غامزا له: - شريطة ألا تنساني من السمك والدجاج ما إن تتزعم المكان. توهجت عيناه أملا بذاك الوصف '' زعيم السوق'' فقال: - لن أنسى صنيعك هذا يا صديقي مياو تأكد من ذلك وفعلا غير طومي نظام حياته من تلك اللحظة، صار يتدرب على الصيد، ويحسن سرعته كل يوم، سرعته في الركض خلف فريسته و الانقضاض عليها والفرار من أعدائه، كان يجابه الفئران والكلاب بدون خوف، لم يستسلم أبدا رغم السقطات والجراح كل حين. ورغم اقتراحي عليه بمشاركته حصتي من المطعم، كان عزيز النفس لو لم أحلف له اخذه لما فعل. استمر على حاله هذه سنة صار فيها طومي قطا آخر شرسا سريعا ورشيقا.  وها قد حان وقت ذهابه لمعترك حياته الجديدة التي يعمل من اجلها منذ عام ولى. قلت له بخوف: - هل ترى نفسك مستعدا لهذه التجربة؟ رد بثقة: -نعم مستعد، ولن يجرؤ أي من تلك القطط السمينة التغلب علي، فيبدو أنهم فقدوا مهاراتهم بكثرة أكلهم، حتى أني سمعت التجار يشتكون من كثرة الفئران في الاونة الاخيرة وأن تلك القطط ما عادت تقوم بعملها بأكمل وجه. سأستغل هذه الفرصة لأنال ما أستحقه. تمنيت له التوفيق، وغادر دون أن يلتفت للخلف. في المساء عاد طومي تملأ جسده الجراح لا يقوى على الحركة. بعناء عاد لبيتي. ركضت نحوه صارخا: - ما الذي حدث؟ نظر إلي ببؤس ووقع غائبا عن الوعي. مر يومان وهو على هذه الحال، عالجت جراحه وأنا أتكهن من طبيعتها أن قطط السوق التفت حوله ونالت منه. وحين استرد وعيه، حكى لي ما جرى وفعلا كان ما توقعته ما حصل، فقلت له: -لقد أخطأت حين سمحت لك بالذهاب منفردا، كان علي مرافقتك. ابتسم طومي رغم آلامه قائلا: -كيف كنت ستجابه قطط السوق الشرسة وما أنت إلا قط أليف ابن مطاعم ابستسمت أيضا وقلت: - يبدو وحفظت دروسك جيدا ثم استطردت: - يجب عليك ألا تعمل منفردا، عليك أن تنشئ فريقا إن أردت أن تجتاح السوق. نظر إلي باستغراب فسالته: -ما بك؟ لما هذه النظرة هل قلت شيئا غريبا لهذه الدرجة؟ رد قائلا: - ظننت أنك ستردعني وتعيدني لبيئتي الاولى كوني فشلت في تحقيق حلمي ابتسمت له وقلت: - لا تنسى أني حكيم القطط، لا أعتبر الفشل نهاية طريق المرء نحو حلمه، بل يجب أن يتعلم من اخطائه يقومها ويعود لمشواره من جديد مسلحا بخبراته الجديدة. خطؤك كان مجابهتهم منفردا، عليك أن تعود بفريق قوي لهزيمتهم، لكن كيف؟ حاول طومي الوقوف وسأل: - ألن يقبل الأصدقاء بترك المطاعم ونهج سبيل العيش الكريم الرغيد؟ لم أشأ أن أحبطه بإجابتي بالنفي، فلن يرغب أي منهم بترك منطقة راحته وخوض غمار المجهول. حتى أن التداريب قاسية كيف لهم ان يداوموا عليها دون أن يكون هدفهم هدف طومي فتدب في روحهم الحماسة وعدم الاستسلام. قلت بأمل: - وجدتها. نظر إلي متلهفا، فأكملت: - يجب عليك أن تخلق في ذهنهم هدفك ليصير هدفهم أيضا، حتى يكونوا فريقا لك تقودهم نحو التغيير للأفضل. ذاك الأفضل ما يجب أن تحرص لرسمه في أذهانهم باستمرار ليصير هاجسهم ورغبتهم في المستقبل. فهم طومي ما قصدته، فسعى مع الايام أن يتودد لباقي قطط المطاعم، ويتحدث أمامهم عن عيش قطط السوق وما ينالوه من نعم، طبعا لاقى المقاومة في البداية، لكنه لم يستسلم حتى كون فريقا من خمس قطط شاركوه نفس الرؤية وانا كنت واحدا منهم. فطومي صديقي وحتى إن لم أكن مقتنعا بهدفه حينها ما كنت لأتركه وحيدا. سنة من التداريب القاسية، تغيرت فيها حياتي، صرت رشيقا سريعا بعد ان كنت سمينا بطيئا، أحسست بقوة غريبة تسري في جسدي، صرت أحب الصيد وأراه منهج الحياة، صار الطعام المجاني في المطعم لا يرضي كبريائي، صرت لا أتلذذه فالطعام النيء ألذ بكثير مما يصنعه البشر، حتى أني كنت أتساءل كيف كنت آكله طوال هذه السنين مطهوا متبلا كيف؟؟ في صباح اليوم الموعود، جمعنا طومي وخطب فينا خطبة لا تتجاوز بضع كلمات لكنها كانت محفزة لنا للمضي قدما دون خوف. اتجهنا صوب ساحة المعركة، فاستوقفتهم قائلا: - لحظة يا رفاق، أرى أن نفترق ونحاصر الأعداء، طومي أنت معروف لديهم وباعتبارك عدوا سهل المنال بالنسبة لهم فللتتقدم ونحن سنلتف حول السوق ما إن سيجتمع القطط الاشرار لينالوا منك خرجنا من حولهم ونلنا منهم على حين غرة. سرت الخطة كما رسمناها، وفعلا حين وصل طومي الى السوق، خرجت القطط السمينة من مخابئها، وغدت نحوه يتقدمها قط أسود اللون بضحكات شريرة قائلا: - أنت مجددا؟ يبدو وأنك نسيت مخالبنا الحادة، فلنذكره بها يا رفاق كان عددهم يفوقنا مرتين لكننا لم نسمح لهذا أن يحط من عزيمتنا، فنقطة قوتنا تكمن في سرعتنا ورشاقتنا لا بد ونهزمهم شر هزيمة، كان القتال شرسا جعلهم يفرون من السوق يتوعدوننا بالعودة للانتقام. علت هتافات الجماهير من الباعة فرحتهم فاقت فرحتنا بالقضاء على تلك القطط البغيضة، انهالت علينا الغنائم من دجاج وسمك، فقال طومي: - شكرا يا اصدقاء إذ آمنتم بي وبحلمي حتى صار حلمكم، أتمنى أنكم وجدتم نتيجة صبركم ومثابرتكم، من الآن لا ذل ولا جوع سيصيبكم. هتف الجميع، فتقدم نحوي وقال: - مياو، شكرا لك يا صديقي، رافقتني في كل محطة من محطات حلمي، بل وكنت مساندا قويا لي، شكرا لك ابتسمت له، وقلت مربتا على كتفه: - أنا من عليه شكرك يا طومي، غيرت حياتي، صرت أفضل بكثير حقا، شكرا لك التحقنا بالرفاق للاحتفال بهذا النصر آملين أن تدوم هذه الفرحة للأبد.  النهاية |