"الحياة شيء خطير، وعدم الاستقرار هو ثمن العيش. الذين يموتون هم الذين يشعرون بالاستقرار".
(علي عزت بيغوفيتش، هروبي إلى الحرية)
لطالما كان الاستقرار الوظيفي ميزة مهمة نسعى إليها جميعا، تلك الرغبة هي بالأساس ما صاغ المَثَل المصري العامي المعروف الذي ينصح بـ "التمرغ في تراب الميري"، تعبيرا عن العمل في الوظائف الحكومية الآمنة، التي تخلو مسيرتها الوظيفية من المخاطر، حتى لو كان هذا الأمان منغمسا بالتراب.
لكن على الجانب الآخر يجب أن نسأل: هل هناك حدٌّ ما من الاستقرار الوظيفي والشعور بالأمان يمكن أن ينقلب بعده كل شيء إلى ركود؟ هل يمكن أن تكون تلك الراحة سجن نُحبَس داخله ويقضي على أي طموح أو رغبة في التقدُّم، مما يُعطِّل مسيرتك المهنية، أو حتى يقضي عليها تماما؟!

خلال فترة الحمل، يزيد إنتاج هرمون الإستراديول، الذي يُحفِّز داخلنا رغبة قوية في التنظيف والترتيب، مما يُسمى بظاهرة التعشيش (Nesting syndrome)، حيث تُعَدُّ السيطرة على البيئة المحيطة من سمات التحضير للولادة لدى البشر وغيرهم من الكائنات الحية (1).

وبينما تسعى الأمهات لإعداد الأعشاش لاستقبال الصغار، يبدو أن هناك نوعا مشابها من التعشيش ومحاولات السيطرة يحدث عند الالتحاق بوظيفة جديدة، حيث يدفع حماس البدايات الموظفين الجدد للحركة الدؤوبة، وبذل كل ما يمكن من جد ونشاط من أجل إثبات جدارتهم وكفاءتهم، لكن بمرور الوقت، تخفت الشرارة، ويصبح العش دافئا، مما يدفعهم للشعور بالراحة في أماكنهم دون أي رغبة في الحركة أو التقدُّم للأمام. إنها شبكة من الروتين الثابت الآمن الذي يحمينا من المفاجآت، لكنه يتحوَّل بمرور الوقت إلى قيد يعوقنا عن النمو والتغيير.

في دراسة حول ارتباط انعدام الأمان الوظيفي بصحة الموظفين في الولايات المتحدة الأميركية، وُجِد أن العيش في ظل الخوف والتهديد بفقدان الوظيفة قد يكون أسوأ من تأثير فقدان الوظيفة الفعلي. لكن على الرغم من التأثير السلبي للشعور بالقلق الناتج عن انعدام الأمان الوظيفي، فإن بعض المؤسسات تعمد إلى خلق بيئة عمل غير آمنة لاعتقادها أن ذلك سيزيد من جودة أداء الموظفين.
من أشهر النماذج الإدارية التي طُبقت في هذا الصدد نموذج 20-70-10، الذي روَّج له جاك ويلش رئيس شركة "جنرال إليكتريك" السابق، وهو يدعو باختصار إلى فصل 20% من الموظفين، وهم الأضعف في الأداء، وتحفيز 10% من الموظفين بالمكافآت، وهم الأفضل، على أن تعمل الشركة على تدريب ورفع مستوى 70% من الموظفين، وهم متوسطو الأداء.

واجهت هذه النظرية العديد من الانتقادات على الرغم من النجاحات التي حقَّقها ويلش، فمثل هذا التكنيك قد يُقوِّض ثقة الموظفين في مكان العمل، ويأتي بنتائج عكسية ويؤدي إلى فقدان الموظفين شعورهم بالالتزام (2). وعلى الرغم من أن جرعة صغيرة من انعدام اليقين الوظيفي قد تمنح العاملين حافزا إضافيا لتحسين أدائهم على المدى القصير، ومحاولة إثبات جدارتهم، فإن وجودهم تحت ضغط مستمر لفترة طويلة قد يؤثر بصورة سلبية على المدى البعيد على أدائهم الوظيفي، بل وقد يُعرِّض صحتهم للخطر (3).

لا يرغب أيٌّ منا في الشعور بالخوف، لكن في بعض الأحيان تصبح مواجهة مخاوفنا الحافز الأهم للتغيير، والحلقة الأساسية في رحلة النمو. طبقا لتقرير صادر عن مؤسسة غالوب (Gallup)، وُجد أن 70% من الموظفين في الولايات المتحدة لا يلتزمون بتقديم أفضل أداء لهم في العمل، وهو ما يحمل آثارا خطيرة على النتائج النهائية للشركات والاقتصاد كله.
هل تقضي أنت أيضا ساعات العمل في تصفُّح صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بلا هدف؟ لم تعد تهتم بالترقي في وظيفتك، وكل ما تريده هو أن تبقى في مكانك منذ الصباح وحتى نهاية يوم العمل، دون أن تُطلَب منك أي مهام جديدة؟ ربما صِرت مرتاحا أكثر من اللازم، ودخلت في دائرة الركود القاتلة، عليك أن تبحث عن هذه العلامات:
بإمكانك التنبؤ بكل ما سيحدث خلال اليوم، تعرف كل المهام الموكلة إليك، تعرف جميع الثغرات والطرق المختصرة لأدائها دون بذل جهد يُذكَر، لا مكان للتحديات أو للمهام الجديدة، لا توجد مساحة للتعلُّم واكتساب المهارات، أنت ماهر تماما في أداء مهامك بأقل قدر ممكن من الطاقة، بإمكانك أن تؤديها مغمض العينين، وبأقل قدر من التركيز الذهني، بما يشبه وضع الطيار الآلي.
أما المهام الجديدة فأنت ترفض تسلُّمها أو تُمرِّرها راضيا لغيرك من الزملاء، يمكنك تخمين مزاج مديرك من لون قميصه وتستغل وقت العمل في أداء أمورك الشخصية، وتصفُّح مواقع التواصل الاجتماعي، وتراقب الساعة منتظرا وقت انتهاء الوقت.

هل توقَّفت عن الإدلاء برأيك؟ هل تكتفي بالصمت في الاجتماعات وتتمنى أن تمر دون أن يسألك أحد عن رأيك، مُدرِكا أنه كلما قلَّت مقاومتك للأفكار المطروحة انتهى الاجتماع سريعا وتمكَّنت من العودة إلى المنزل في أسرع وقت؟ يدل صمتك وتوقُّفك عن الإدلاء بآرائك على أنك فقدت اهتمامك بعملك، وأنك كما يقول المثل المصري العامي صرت "تربط الحمار أينما يريد صاحبه" دون اهتمام حقيقي أو شغف. (4)
- لم تُحدِّث سيرتك الذاتية منذ سنوات:
لا تتذكَّر المرة الأخيرة التي حدَّثت فيها سيرتك الذاتية، أو صفحتك الشخصية على موقع "لينكد إن" (Linkedin)، فقد مرَّ وقت كبير دون أن تتعلَّم شيئا جديدا أو تلتحق بدورة تدريبية، أو تحصل على ترقية.
انطفأت شرارة الشعور بالرضا والتحقق: هناك شرارة ما من الشعور بالرضا وتنفُّس الصعداء والإحساس بالتحقُّق والاكتفاء عندما ننجح في أداء مهمة ما أو نتخطَّى تحديا جديدا، هل تشعر بها من آنٍ إلى آخر في العمل أم أنك نسيت هذا الشعور؟
- عدم الارتياح مع زملائك أو مديرك:
أظهر بحث نُشر في غالوب لاستطلاعات الرأي (Gallup Poll) أن 80% من الموظفين تركوا وظائفهم لعدم قدرتهم على التعامل مع رؤسائهم وليس لعدم قدرتهم على التعامل مع مهام الوظيفة.
رغم عدم ارتباط هذه العلامة بدائرة الراحة فإن الإنسان اجتماعي بطبعه، يحتاج إلى الوجود في بيئة إنسانية بين أفراد يستطيع التعاطي معهم، لا يعني هذا أن عليك تكوين صداقات في العمل، لكن تحتاج إلى العمل بين أفراد تستطيع التعامل معهم دون أن يُمثِّل هذا ضغوطا يومية (5).

"عندما تواجه خيارات مختلفة، عليك اختيار ما يبدو أنه الأصعب، لأنه عادة ما يكون الخيار الصحيح".
(ماريسا ماير، المدير التنفيذي السابق لـ "ياهو")

إذا كنت تشعر أنك قابع بالفعل في دائرة الرائحة، فإننا ننصحك بالانتباه والتيقظ، فرغم أنك تشعر أن كل شيء على ما يُرام بالفعل، فإن الأمور ليست كذلك، لقد تأقلم عقلك وجسدك مع الراحة، وعلى الأرجح فإنك ستواجه مشكلة كبيرة في التأقلم مع أي تحدٍّ كبير قادم في حياتك المهنية. يمكن لهذه الخطوات أن تساعدك في الخروج من فقاعة الراحة الخاصة بك:
هل تعرف أهدافك حقا، أم أنك مُعلَّق بانتظار أهداف وهمية لا ترغب في الوصول إليها؟ دعك من آراء الآخرين وتوصياتهم، وابحث عما يهمك حقا. على سبيل المثال، ربما تتمسَّك بالوجود في وظيفتك منتظرا ترقية مأمولة، لا تريدها من الأساس ولن تُضيف إليك شيئا.
يمنحنا الانتظار أوهاما زائفة حول فضيلة الصبر ومكافأته المُنتظَرة، نقبع في مكاننا منتظرين، بينما يُفترض بنا أن نتحرَّك ونسعى نحو الأمام، بدلا من انتظار ما يتفضَّل به مرور الوقت علينا من فتات. لذلك، حدِّد هدفك بدقة، واسعَ نحوه بخطوات صغيرة ومحسوبة، مثل أن تبدأ دورة تدريبية عبر الإنترنت، أو ربما تبدأ عملا جانبيا، أيًّا كان ما تشعر أنه يدعم المسار الوظيفي الذي تسعى تجاهه (6)، ولتكن أهدافك في كل الأحوال مميزة بالسمات الرئيسية المهمة: مُحدَّدة وليست عامة، واقعية، يمكن قياسها وقياس نتائجها، مُرتَّبة بحسب أولوياتك، وأن تتابع تقدُّمك فيها عبر جدول زمني وضعته على ورقة ربما تُعلِّقها على جدار غرفتك.
واجِه مخاوفك، ليس عليك تغيير وظيفتك فجأة، قد لا يكون هذا خيارا عمليا أو مناسبا للجميع، لكن بإمكانك تجربة الاضطلاع بمهام جديدة في إطار وظيفتك، أو عمل الأشياء بطريقة جديدة.

يساعد التعلُّم على شحذ مهاراتك وتحفيز حواسك، وإشعال جذوة الشغف من جديد، سواء كان تعلُّم مهارة جديدة أو لغة جديدة، أو دورة تعليمية لها علاقة بعملك، كما أنه قد يفتح لك بابا أو فرصة للترقي الوظيفي (7).
ربما لا تحتاج في الوقت الحالي إلى البحث عن وظيفة جديدة، لكن استقرارك في الوظيفة نفسها لسنوات طويلة قد يجعلك غير واعٍ بالخيارات المتاحة والتغيرات التي تحدث في مجال عملك. يُفوِّت الانعزال عليك أي فرص جديدة سواء للتعاون مع قسم آخر أو مؤسسة أخرى، أو التعرُّف على شخص جديد قد يُعزِّز حياتك المهنية. في لحظة ما، ربما تحتاج إلى هذه الفرص والعلاقات للحصول على عمل جديد حال وقوع مشكلات في عملك الحالي، كما أن معرفتك بوجود فرص أخرى متاحة يساعدك على كسر حاجز الرهبة من التغيير.
هل ترغب في التطوُّر وتنمية مهاراتك والوصول إلى مكان أفضل؟ أم أنك تُفضِّل الحصول على وقت أكثر لهواياتك؟ هل يمكنك التضحية بالمزيد من الوقت لتعلُّم مهارات جديدة؟ ستساعدك الإجابة عن هذه التساؤلات على اتخاذ القرار بشأن خطوتك التالية. وإذا قرَّرت أن تسعى للحصول على وظيفة في مكان جديد، فاحرص على معرفة آراء العاملين في المؤسسة الجديدة، سُمعة الشركة في سوق العمل، ولا تدع الأرقام فقط تقود تقييمك للموقف، وقارِن بينها وبين وظيفتك الحالية.
سواء قرَّرت أن تغامر وتقفز من السفينة إلى عرض البحر، أو قمت ببعض التغييرات البسيطة والمحسوبة، كُن حريصا على ألا تترك الركود يقتلك، ولا تستمتع بذلك المرور البطيء للأيام، ولا تسمح للراحة التي تنسج حولك خيوطها، كشباك العنكبوت، أن تُنسيك شغفك وأحلامك.
_________________________*****_______________________________