ليلةَ العيدِ هذا العيدُ واللُعَبُ وبهجةُ الطفلِ ما في عقلها تَعَبُ
تحُومُ ترقصُ تستجلي مفاتنَها ملابسٌ وعصافير لها زغَبُ
كان يعي تماماً أن عيد الفطر يقترب , و أنه كرب أسرة بسيطة عليه أن يؤمن أسباب فرحها و سعادتها بهذه المناسبة المباركة ..
ثياب العيد باتت باهظة الثمن هذه الأيام , أولاده يحتاجون لملابس جديدة , فهو لم يشتري لهم ثياباً جديدة منذ سنوات طويلة ..
كانوا يرتدون الثياب المستعملة أو مما تجود عليهم الجمعيات الخيرية و أهل البر و الإحسان ..
لكنه هذه المرة كان عازماً أشدّ العزم على شراء ملابس جديدة لهم , ملابس تشعرهم بفرح العيد و بأنهم لا يختلفون عن باقي الأولاد في مثل سنّهم ..
كان جُلّ ما يكسبه من عمله في احدى ورش إصلاح السيارات بالمدينة الصناعية يكاد يلبي و يسدّ احتياجات أسرته اليومية و طلباتها المتزايدة ..
مع بدية شهر رمضان المبارك و دخول الشهر الكريم , استطاع صالح أن يجد عملاً إضافياً بالمساء في احدى المستودعات التجارية , فكان دخلاً إضافياً سيحصل عليه مع نهاية كل شهر ستمكّنه من شراء ملابس العيد لأطفاله الصغار , كما وضع خطة تقشف اقتصادية صارمة تعزز فرص توفيره للمال في هذه الفترة القاسية و الصعبة ..
"علينا أن نضغط على أنفسنا هذا الشهر , وجبة طعام واحدة باليوم عند الإفطار , لن نسرف كثيراً بالطعام و الشراب "
قال مخاطباً زوجته و التي أظهرت رضاها و قبولها ..
في احدى الأيام و بينما كان صالح يعمل بالورشة , دخل رجل و ملامح الغضب و الشر ترتسم بشراسة على وجهه:
أين المعلم ياسين؟؟ أريده حالاً...!! يجب أن يعرف و يتصرف حالاً ..!! لن أسكت عن هذا الأمر ..!!
فجأة خرج المعلم ياسين من مكتبه البسيط ليستطلع الأمر ...
أهلا بك سيد راجي .. أرجوك هدىء من روعك و تمالك أعصابك ..
تفضل لغرفة المكتب لتأخذ كأساً من الشاي و تخبرني ما سبب غضبك ..!!
جلس السيد راجي في المكتب و أخذ رشفة صغيرة من كأس شاي كان قد وضعه أمامه المعلم ياسين :
"أحد عمالك سرق نظارتي الشمسية الأصلية من سيارتي بينما كانت في مرآبك ويتم إصلاحها " قال السيد راجي و تابع قائلاً:
" هل تعرف كم ثمنها ؟ لقد اشتريتها منذ مدة عندما كنت مسافراً خارج البلاد و دفعت من أجلها الكثير من النقود "
" و الآن ببساطة يأتي من يسرقها من عمالك , هل ستعيدها لي؟ هل ستدفع لي ثمنها؟ "
نظر المعلم ياسين إلى السيد راجي بشيء من الجدية و العنفوان ثم قال:
أرجوك سيد راجي , لا بد أن ثمة لبس و غموض في الأمر , فمن يعملون لدي هم مثال في الأمانة و الأخلاق الحميدة و لم يحدث أبداً أن اشتكى منهم أحد طوال السنوات الطويلة التي عملوا فيها عندي"
"لا يهمني ما تقول , أعد نظارتي و إلا سأبلغ الشرطة " ردّ السيد راجي بغضب شديد و تابع قائلاً:
" سأنتظر حتى يوم غد " قالها و هو يهم بالانصراف تاركاً المعلم ياسين غارقاً في أفكاره و خواطره الفاترة ..
نادى المعلم ياسين على صالح و هو من قام بإصلاح عطل سيارة السيد راجي و استوضح منه الأمر ..
لم يكن صالح قد رأى النظارات الشمسية الخاصة بالسيد راجي و هو يعرف جيداً أن المعلم ياسين لا يشك به و لا يتهمه بسرقتها ..
" صالح , لا بد من عمل شيء ما حيال هذه المسألة , السيد راجي غاضب جداً و قد ينفذ تهديده و وعيده , كما أنني لا أريد أن أخسر زبون مثله "
قال المعلم ياسين بحزم موجّهاً كلامه لصالح والذي غابت عن وجهه تقاسيمها البشوشة و الطيبة ..
" سندفع له ثمنها , سأتحمل معك نصف الثمن , هذا قراري الآخير , سأحسم نصف مرتبك هذا الشهر "
"عليك أن تواجه الأمر بشجاعة و تتقبله , ارجع لعملك الآن" قالها المعلم ياسين و هو بحرف وجهه عن صالح الذي رد بشيء من الخيبة و الإحباط :
" ولكن يا معلم .. أنا مظلوم و و و ........."
قاطعه المعلم ياسين بحدة :
" سمعت كلامي و قراري , عُد لعملك الآن , اتركني لوحدي , لا أريد سماعك "
شعر صالح بشيء كبير من الانكسار والخيبة و بدأت الهواجس القاتمة تغزو رأسه المثقل بالهموم و الشجون ..
كيف سيتدبر أمر ملابس العيد الآن ؟ هو بحاجة إلى كل قرش من مرتبه حتى يغطي نفقات ثياب هذا العيد ..!!
لن يقترض المال من أحد , هو يكره اقتراض المال , كما أنه لن يذل نفسه لأحد مهما كان ..
ولكن كيف سيفي بوعده لأولاده و يشتري لهم ثياباً جديدة هذا العيد ؟
لا تزال عيونهم الصغيرة و بريق فرحها و ولعها عندما أخبرهم أنه سيشتري لهم ثياباً جديدة هذا العيد ماثلاً في مخيلته ..
يومان فقط و يأتي العيد السعيد و هو عاجز عن إيجاد حل لمعضلته الكبيرة ..
لم يخبر أحداً بما حصل معه , حتى زوجته التي لاحظت خموله و قله نشاطه و ميله الشديد للسكوت و السرحان ..
تذكر فجأة صاحب المستودع الذي يعمل لديه منذ مدة قريبة , هو رجل تقي ورع , طيب القلب , أظن أنه سوف يساعدني و يعطيني أو يقرضني بعض المال ..
همّ منتصباً و انطلق صوب باب داره غير أبهٍ بصراع الكرامة و العزة الذي لم يغب عنه منذ أن جاء إلى هذه الحياة الفانية ..
فتح الباب سريعاً فإذ بشبح رجل ضخم الجثة , رزين الملامح , تقدّم نحوه :
" أرجوك أن تسامحني , أخطأت في حقك و ظلمتك " قال الرجل بشيء من الثقة و قليل من الراحة ..
" السيد راجي ..!! أهلاً و سهلاً بك في بيتي المتواضع , أرجوك تفضل لتشرب الشاي " قال صالح وعلامات الدهشة و الاستغراب كانت بادية على وجهه ..
دخل السيد راجي و جلس في مكان ما قريب من الباب , وضع صالح أمامه كأساً من الشاي كان قد حضره قبل , أخذ السيد راجي رشفةً صغيرة ثم أخرج من جيب سترته ظرفاً و أعطاه لصالح :
"تفضل يا صالح .. أرجو أن تقبل مني هذا المبلغ من المال و قبلها أن تسامحني و تقبل اعتذراي , لقد ظلمتك , وجدت نظارتي الشمسية في مكان ما من منزلي , أشعر أنني أخطأت بحقك و لن أكون سعيداً قبل أن تسامنحي و تصفح عني " قال السيد راجي لصالح الذي بدت عليه علامات التوتر و القلق ..
يعرف صالح تماماً أن الصفح والعفو عند المقدرة هما من شيم الكرام و أن من يتمتع بالأخلاق العالية يجب أن لا يصدّ أو يرّد من جاءه معتذراً أو طالباً عفوه :
" سامحتك و قبلت اعتذارك و لكنني لا استطيع أن أقبل منك هذا الظرف و ما فيه من مال" قال صالح و هو يعيد الظرف إلى السيد راجي الذي هبّ من مكانه لينصرف و قبل أن يخرج من دار صالح مدّ بيده بالظرف مرةً أخرى ليضعه في يد صالح و الذي أبعد يده بسرعة معبّراً عن رفضه و عدم قبوله ..
في اليوم التالي , حصل صالح على مرتبه كاملاً من الورشة التي يعمل بها , كما حصل على مرتبه من صاحب المستودع إضافة إلى مكافأة مجزية هي نصف راتب شهري كبدل إضافي تعويضي عن العمل خلال شهر رمضان الكريم ..
هو الآن يعيش لحظات سعادة و فرح عاتية , سيرى فرحة أطفاله و بهجتهم بالعيد و هم يرتدون أجمل الثياب الجديدة و أحلاها .
^^^^^
تمت بعون الله