كانت سلمى مستغرقة في نوم عميق عندما انطلق منبّه هاتفها الجوال ..
كانت الساعة الثالثة فجراً , بعد حوالي ساعة من الآن , سينطلق قطارها السعيد متجهاً إلى تلك المدينة البعيدة في شمال أوروبا , لن تكن رحلتها بالعادية أبداً ..
فهي في اشتياق كبير و لوعة لرؤية ولديها الصغيرين بعد سنوات ليست بالقليلة من الغياب و البعد , فقرار انفصالها عن زوجها السابق و التخلي عن أولادها له لم يكن بالأمر الهين أبداً..
كانت تمضي ليالٍ طويلة تجهش بالبكاء تحت غطاء سريرها في غرفتها الباردة , الباردة في كل شيء , فحياتها منذ تلك اللحظة تبدّلت و تغيّرت كثيراً..
كان عليها أن تتأقلم و تتعوّد على وضع قاسٍ جديد , ستواجهه بعنفوان أمرأة مطلقة أغلقت أبواباً عتيقة مهترءة , عبثت فيها الهموم و الغموم , لتفتح أبواباً ملهمةً حالمة نحو مستقبل واعد رقيق..
كانت عينيها تحدّقان بشوق و لهفة بذلك القطار الجاثم برهبة و هيبة في محطة القطارات و هي تهمُّ بالتوجه نحوه مغادرةً صالة الركاب في المحطة ..
كانت الأفكار الغرائبية تتصارع بعنف داخل رأسها و تثقل همومها و أحزانها , فليس سهلاً أبداً أن تبدأ رحلة لا تعرف أي مجهول أو غموض سوف يداهمك في نهايتها..
إنها رحلة القلق و الخوف من اسرار و خفايا قاتمة قد تنتظرك في نهاية المطاف..
هل أجد ما لا أتوقعه ؟ هل سيكون هناك من ينتظرني بنفس مقدار الشوق و الحنان الذي أحمله معي له ؟
هل أصاب بالاحباط و الصدمة بما يمكن أن ألاقيه من تغيرٍ أو تحول في العواطف و المشاعر؟
لا , لا , أنا لا احتمل مثل هذه المفاجآت المزعجة المحبطة , فأنا هشة جداً من الداخل , كفقاعة بالون صامدة منذ انطلاق رحلتها بالهواء و على وشك الانفجار بلحظة ما عند أول فعل ميكانيكي يلامسها و يقاوم حركتها ..
لم تكن سلمى من أولئك الذين يفضلون كثيراً الجلوس قرب النافذة في الطائرة أو القطار أو حتى السيارة , هي تدرك تماماً أن أولئك الذين يجلسون بمحاذاة النافذة لا يعرفون شيئاً عن تفاصيل الطريق ..
ولكنها هذه المرة أصرّت على الجلوس بمحاذاتها , علّها تستمتع بمشاهدة روعة الطبيعة و قسوتها في مثل هذه الأشهر الباردة من الشتاء ..
لعل الشتاء في داخلنا أشد ضراوة و قساوة من الشتاء في الخارج , شتاء يخزي القلب و يصيب أعضاءنا الداخلية بالجمود و الصقيع ..
هل يجردنا الشتاء من زهور الفرح ؟ وهل تذهب مشاعر جميلة راضية مع الريح ؟ وهل تأخذنا الأعاصير إلى أفكار متضاربة مجنونة ؟ ثم إذا ما أتى الربيع، فإذا ثمارنا فجة غير ناضجة، ويبقى حنين النفس متلوع إلى أنفاسٍ دافئة ، يجتاح الليل، فالقلب أعياه التجمد، ومدفأة الحطب ترسم الصورة، صورة القلب المُتعب،والجمر يشكو حرقة الشوق و اللهفة ..
لم يكن القطار في مثل هذا الوقت من السنة بممتلىء , لعل برودة الشتاء قد قتلت كل الرغبات المدفونة عند أولئك الذين عقدوا العزم على السفر في هذه الأيام شديدة البرودة والتمسوا لأنفسهم الأعذار و الذرائع الخائبة ..
في مقصورتي المفترضة بالقطار , كان يتخذ مكانه بعيداً عن النافذة , قريباً من الردهة , بدا لي كأنه يسافر وحيداً لأول مرة في حياته , بعيداً عن أسرته و بيته , هو شعور قاهر لا يعرفه سوى من مر بتجربته و مرارتها ..
ألقيت عليه التحية , فرد باقتضاب و اسهاب شديدين , لعله شعر بالخجل , الخجل من سيدة في مثل عمر أمه ..
جلست في مواجهته تماماً قريباً النافذة , كان كل شيء أبيضاً تماماً بالخارج , اكتست الأرض ثوبها الناصع البياض , كعروس في لية العرس , غطت الثلوج الكثيفة أشجار السرو و الصنوبر في أبهى صورة رسمتها بإتقان الطبيعة المدهشة الساحرة , كان منظراً يبعث على الطمأنينة و بنفس الوقت على اليأس و النكران ..
أخرجت من حقيبتي كتاباً كنت قد اشتريته منذ مدة , كتاباً حول علم نفس المراهقة و خفاياها ..
وما أن أنهيت الصفحات الأولى منه حتى أطلق القطار صافرته معلناً بدء رحلته الطويلة و كأن إنذاراً عنيفاً قد تم إعلانه في جوفي , إعلان بدء رحلتي لملاقاة كل ما هو مجهول , على الأقل من وجهة نظري المتشائمة و السوداوية...
أخذ قطاري يشق طريقه بصمتٍ وسط السهول و الجبال المكتسية بالثلوج البيضاء و الأنهار و الجداول الصغيرة المتجمدة و أنا أتابع بشغف و دهشة ما أبدعته يد الخالق سبحانه من طبيعة ساحرة فاتنة لم تستطع أن تبعد عني ما يدور في خلدي من مشاعر مكبوتة من القلق و الريبة و الفضول ..
^^^^^
يتبع