جاء الربيع ورحل الشتاء، بهذا صدح صوتٌ عبر المذياع، صوت المذيع تماما كصوت المفتي المبشر برؤية الهلال.... تسارعنا الى النوافذ لرؤية صفاء السماء وخضرة الأرض... كانت فرحتنا في تلك الاثناء تشابه فرحة الاطفال في اول ايام العيد. فاخيرا رحل الشتاء بكل خطاياه ودنسه، ربما كان الوصف بشع ولكن شتائنا كذلك. فالناس في الخارج يصلون الاستسقاء، ولكننا هنا ندعو الله الا يستجيب، فالشتاء الماضي وكل شتاء يكون قاسي بكل المقاييس، في هذا العام فقط، مائة بيت قد سقط، ومثلها من الرجال، واضعافها من الخيام التي تمزقت، على كل حال ها قد رحل الشتاء، ولكنه سيعود، حتما سيعود، ولكن هل سنكون مستعدين في العام القادم، ام ان المشهد نفسه سيتكرر ككل عام.
توسطت الشمس السماء، وغزت اشعتها الارض، باحثةً عن الزجاج؛ لتخترقه، اجواء جميلة نتمنى لها الدوام، ولكن هيهات... ازهار الربيع بدأت بالظهور، وزقزقت العصافير علت في كل الارجاء. فبعد ان سقط الحائط الشرقي لمنزلنا في الشتاء الاخير، بدأ ابي بالترميم:،حاول ان يجعله اكثر صلابة، ولكنها مجرد أوهام، فليس باليد حيلة، فالمواد المتوفرة منذ سقوطه الاول قبل عشرة اعوام هي نفسها... بعد بضع ايام، انتهينا واخيرا من الترميم وكعادتنا في كل عام بعد الانتهاء نخرج برحلة بحرية نجوب بها البحر ونتعرف من خلالها على ما يحويه من مخلوقات، ففي كل عام يكتشف ابي مخلوقات لم يرى مثلها من قبل، رغم انه الصياد الكبير، الذي ولد بالبحر وعاش كل ايام طفولته وصباه، ابي هو عالم حقيقي، فلولا اننا هنا نخضع للحصار البري والبحري، لكان حصل على اوسمة تغطي سكان الارض جميعهم.
كان يوم جمعة، يوم من ايام الله المباركة، فبعد الصلاة في المسجد الكبير، خرجنا نطالع البحر، ركبنا بالمركب نفسه، المركب الذي ولد به ابي، وتوفي به اباه، فلا نملك سواه... كانت الرحلة كغيرها من الرحلات السابقة، فمنذ عشر سنوات او اكثر نخوض الرحلة ذاتها، رحلة الاحتفال برحيل الشتاء، الا ان ما يختلف من عام لاخر، شيئان:- معلومات الابي الجديدة، والمساحة البحرية، فهي تلك المساحة التي فرضها علينا العدو لا نجاوزها، وان فعلنا اردانا شهداء، كما حصل مع جدي وغيره من الرجال، فبنينا لهم مقبرة اسميناها، مقبرة شهداء البحر... المساحة البحرية هذه اخذه بالنقصان، فاذكر قبل ثلاثة اعوام كنا نتقدم بالبحر، فلا نرى شاطئ المنطلق، ولكننا اليوم نكاد الا نغادره.
في منتصف الرحلة ونحن نقف على الحدود البحرية، وبينما يشرح لنا ابي عن بعض انواع الشمندر التي اكتشفها حديثا، رأى سمكة غريبة، جميلة كحورية البحر، قصيرة كذنب الخيل، فصاح بأعلى صوته انها الماندرين، واطلق سنارته العنيدة نحوها، فعلقت بها على الفور، حاولت الماندرين سحبنا الى خارج الحدود، لكن كان ابي شديد الحرص، فحاول التشبث حتى كاد يلقي السنارة، فمصير من يخرج من الحدود الموت، ولكن لحسن الحظ غيرت السمكة مسارها وانحرفت الى الداخل فأخذ ابي يطاردها، وخلال المطاردة كان يروي لنا قصة الماندرين، التي حدثه عنها اباه، فهي اجمل سمكة في الماء، فمن يصطادها فقد اصطاد البحر كله... أخذت السمكة تصول وتجول بين الداخل والحدود، حتى وقفت عند الحد الفاصل، حاول ابي سحب السنارة بقوة ووسط معاندة من الماندرين، هجم قرش البحر الشرس عليها، فابتلعها وعلق بالسنارة، حاول ابي رمي السنارة، والتجديف هروبا، الا ان القرش سحبنا الى داخل الحدود سنتيمتر واحد فقط فرمى ابي الصنارة على الفور، صنارة عمره التي لا يمتلك سواها، حاول ابي التجديف الا ان رصاصة القناص اللعين اخترقت دماغه فسقط بالقارب، فلم نجاوز غير سنتيمتر واحد لثانية واحدة، فكيف له الاطلاق، رغم الحزن والصدمة والعويل والبكاء حاولت التجديف والهروب، ولكن كانت رصاصات القناص المتطايرة بعشوائية وهمجية تلاحقنا، فسقطوا اخوتي واحد تلو الاخر الا انني نجوت بأعجوبة وعدت الى الشاطئ الحزين، بالقارب المليء بالجثث والثقوب، والدماء والدموع، مجزرة حقيقية قد وقعت، فالبحر قد امتلئ بالدماء، والاسماك قد فرت الى خارج الحدود تبحث عن المعاناة، فمن سيشيع كل هذه الجثامين! ومن سيبكي الموتى! فدموعي وحدها لا تكفي لبكاء كل هؤلاء.