
مهما مرّت الأيام و تعاقبت السنون فلن تستطيع يد الدهر أن تمحو من مخيلتي أحداث ذلك اليوم الصاخب والذي عشت فيه مشاعر و أحاسيس مختلطة من لهفةٍ وفزعٍ و رُهاب ...
كنا ثُلةً من الأصدقاء و الأقرباء نمضي إجازة نهاية الصيف في احدى القرى الساحلية الجميلة بشواطئها و الغنية بدفء شمسها و رونق طبيعتها..
و بينما كنا في جلسة سمرٍ مقمرة نتجاذب بود و انسجام أطراف الأحاديث و نتبادل الطرفات و النكات و نسيم الجبال العليل يداعبنا بحنان مضفياً سحراً هائماً و ألفةً عذبةً , فجأة قفز أحد الموجودين من بيننا بفكرة أسطورية :
"ما رأيكم أن نتوجه غداً صباحاً في مغامرة بحرية وسط هذا البحر؟" قالها و هو يشير بيده نحو البحر الأزرق الواسع ..
علت صيحاتنا جميعاً معلنين موافقتنا على اقتراحه بالرغم من اعتراض احد الموجودين بدعوى أنه يعاني من دوار البحر و أنه يفضل أن يبقى وحيداً على الشاطىء و ينتظر عودتنا ..
"علمت من أحد سكان هذه القرية أن هناك جزيرة صغيرة قريبة من هذه الشواطىء , ما رأيكم أن نبحر نحوها و نستكشفها ؟ ربما نعثر فيها على كنز قديم مدفون ! " (قال صاحب الفكرة مازحاً) ثم تابع قائلاً:
تعلمون جميعكم أن لدي خبرة مناسبة في البحار و قيادة المراكب البحرية , سأكون لو وافقتم قائد هذه الرحلة و المسؤول عنها ! ...
شعرنا جميعاً بالارتياح لما سمعناه و كان حماسنا و شوقنا للمغامرة القادمة كبيراً جداً..
مع اللحظات الأولى من فجر اليوم التالي و بعد أن أنهينا كافة الترتيبات اللازمة لرحلتنا البحرية , صعدنا إلى المركب المستأجر و انتشرنا على سطحه و أخذنا ننظر بشيء من اللهفة و الأمل إلى الأفق البعيد ..
كان البحر ساكناً والسماء صافية إلا من بعض الغيوم المتناثرة و طيور النورس و التي كانت تحوم فوق الشاطىء و تقترب من السفن و المراكب الراسية , في مكان ما ليس ببعيد , تجمّعت مراكب الصيادين حاملةً معها آمالاً واعدة بيوم صيد وفير..
انطلقت مغامرتنا البحرية مع بزوغ شمس الصباح و افتراشها قلب السماء و بدأت الشمس تدلي بجدائلها الذهبية خيوط الأمل و التفاؤل , كان مشهداً رائعاً أبدعه الخالق عز و جل و أحسن إبداعه ..
أمضينا أوقاتاً جميلةً ممتعةً على متن المركب بينما كان قائد الرحلة يقودها نحو الجزيرة المجهولة ..
كنّا نستمتع مع بعضنا البعض بالألعاب الطريفة و التسالي الخفيفة في جو مفعم بالدعابة و المرح , و ما أن نشعر بالجوع حتى نباشر بتحضير أطعمة و مأكولات متنوعة كنّا قد أحضرناها معنا من أجل رحلتنا البحرية , مضى الوقت بسرعة و أخذت أشعة الشمس تستند على زاوية الغروب، تلتقط أنفاسها المتطايرة خلف الأفق، نهاية رحلة الشمس بكل عنفوانه نحو الغرق في مياه البحر الهادئ , هو منظر لطالما ملأ القلوب بمشاعر تختلط عند رؤيته , رؤية حالمة أمام بحر عنيد بأمواجه الهادئة المنكسرة , هو شعور صفاء و سكينة بعيداً عن الهموم و الغموم , البحر والشمس يتواعدان , يتهامسان , لعلهما يتبادلان الأسرار و القبل , أصوات أمواج البحر تغرس الشوق في قلبي، إنّه شوق الرؤية إلى السماء والشمس في أفول , مشهد وداع ساحر سيكون بمشيئة الله لقاء عاصف واعد بعده , منظر فتّان يسحر العيون الهائمة و يحيي القلوب البائسة ...
" يا ترى كم تبقى من الوقت كي نصل إلى جزيرتنا المقصودة ؟ "
قال أحد الموجودين بيننا بشيء من الفضول و الحذر ..
ساد صمت مطبق في المكان , لم يكن أحداً بقادر على الإجابة على هذا السؤال سوى صديقنا قائد رحلتنا ..
و ما هي إلا دقائق قليلة حتى ظهر قائد الرحلة و قد اكتسى وجهه بألوان العبوس و الشحوب ..
" يبدو أننا تهنا وسط هذا البحر الواسع " قال و هو يشعر بخيبة أمل تجاهنا..
" كنت أتوقع وصولنا خلال بضعة ساعات فقط , ولكن ...!! "
عاد الصمت إلى المكان و سرعان ما تبدلت الأجواء و اضطربت , أصابنا الخوف و القلق و الفزع , أخذ بعضنا يتلو الصلوات و الأدعية و الابتهالات , بينما أصاب بعضنا الآخر يأس و احباط شديدين , فأطرق رأسه نحو الأسفل و غرق في أوهامه القاتمة و أفكاره السوداء , أما قائد المركب فعبثاً كان يحاول تغيير وجهتنا و العودة بنا وسط البحر الهائج و الغاضب..
حتى الطبيعة الساخطة أرادت أن تشاركنا قلقنا و فزعنا , برق و رعد و أمطار غزيرة أجبرتنا على الإحتماء داخل قمرة القيادة , يالهول ما رأينا ! أمطار في مثل هذا التوقيت من السنة !
" يبدو أننا وسط عاصفة مطرية قوية "
" تمسكوا جيداً و لا تبرحوا أماكنكم داخل القمرة " قال قائد رحلتنا وهو يحاول جاهداً السيطرة على المركب و العودة به بأمان نحو الشاطىء , مرّ الوقت ثقيلاً علينا و نحن بين أيادي الأقدار و لطف الله ..
فجأة , سمعنا صوتاً قوياً قادماً من جهة البحر , خرجنا جميعاً من قمرتنا لنتبين مصدره , إنه بوق احدى المراكب القادمة نحونا والتي أخذت تصدّر أضواءها الكاشفة إلينا , إنهم خفر السواحل جاؤوا لنجدتنا و إنقاذنا ..!!
اقترب مركبهم من مركبنا بسرعة و قفز رجلين من الخفر إلى سطح مركبنا..
"هل الكل على ما يرام هنا ؟ " قال أحدهم ..
" نحن على ما يرام و الحمد لله , شكراً لمجيئكم و إنقاذنا " أجبنا و نحن نشعر بشيء من التفاؤل و الفرج
" كنا في دورية اعتيادية عندما وجدنا هذا المركب فعرفنا أنكم تائهين وسط هذه العاصفة "
" لا تقلقوا , سيكون كل شيء على ما يرام " قال رجال خفر السواحل لطمئنتنا ..
تم ربط مركبنا بمركب خفر السواحل حيث توجهنا بعدها إلى الشاطىء حيث انطلقت رحلتنا البحرية المثيرة منه ..
عادت الطبيعة إلى هدوئها بعد غضبها و اهتياجها , و أظهر البحر بدوره تعاطفه مع الطبيعة , فعاد إلى هدوئه و سكونه , أما نحن فقد أخذنا نعيش متعة الانتظار و اللهفة للعودة إلى شواطىء البر و الأمان ..
أخيراً و بعد انتظار طويل وصلنا الشاطىء بسلام , وجدنا صديقنا الذي تركناه خلفنا ينتظرنا :
" أظن أنكم استمتعتم برحلتكم " قال صديقنا و تابع بالقول:
" كم كنت أتمنى لو أنني ذهبت معكم .! "
ضحك الجميع هنا و تابعنا طريقنا نحو شققنا ونحن نفكر بيوم آخر جديد ..
سنوات طويلة مرت على تلك الرحلة البحرية إلا أن لحظاتها المريعة و القاسية ما تزال تعشعش في ذاكرتي و تنقضُّ على تجاربي الخاطفة المريرة و التي خضتها في رحلة الحياة .
^^^^^^^^^^
تمت بإذن الله