ابتسامة في وجه الموت في مدينتي فقط تسقط الأحلام قبل خط البداية...! شريفة، اعرفها لأني اعرف كيف تنبت الزهور البرية على قمم الجبال وبين شقوق صخوره الصماء تنبثق وتتمايل في عزة مع هبوب نسمات الشتاء..اعرف صاحبة الخامسة والعشرين سنة اعرفها كزهرة عباد الشمس تستدير حيث النور دوما..تدرك أن البؤس شيء ضعيف حين ترى ابتسامتها السعيدة رغم الفقر ورغم الحاجة فتقول إنها فقط ابتسامة تقلب موازين الحياة وتقهرها! نحن في الحقيقة ننظر دائما إلى كم الثمار التي في الشجرة ولا نهتم لما يحمله الغصن من ثقل! هي كانت ذلك الغصن الذي تحمل ثقل تلك العائلة، أمها المسنة التي انحنى ظهرها وذهب نظرها لفرط ما انكبت على ماكينة الخياطة والأثواب.. أختاها اللتانتصغرانها في السن كانت لهما القدوة والمعين،الأب، الأخ والصديق وقت الضيق.. تماما كمن يضع ستائر فخمة من الساتان المرصع على نافذته المخلوعة التي تشقق خشبها وذهب بعض دهانها...! هي هكذا في ذلك البيت المتواضع على تلك الهضبة ترى نوره في المساء كنجمة الشمال في السماء شامخا من بعيد كيف تختار تلك الأشياء التي تزين بيتهاوعالمها الخاص والتي لا تتناسب أحيانا مع بيئتها ومعيشتها كتلك الكرة البلورية التي بداخلها رجل الثلج تضعها دائما على طاولتها الصغيرة تقوم برجها كل صباح تتناثر بداخلها وتسبح حبات الثلج،تتأملها قليلا حتى تعود وتركد في القاع وذلك يعني اشارة الانطلاق لديها.. تهم وتلملم أغراضهافي عجل تضع الخيط بين صفحات كتاب تنوي العودة إليه في المساء ثم تأخذ محفظة نقودها تفتحها وتتفقد ماتبقى في أحشائها وتضع بعض العملات التي تكفي مصروف اليوم على الطاولة.. تأخذ من درجها مفكرتها الخاصة ذات الأوراق الصفراء التي انتقتها بعناية والتي زينتها بغلاف طفولي عليه رسومات دمى صينية وأشكال زهرية فهي اعتادت ان تكون معها في كل مكان تذهب اليه، تلك المفكرة بالنسبة لها هي نوافذ الروح هي كلمات عابرة واحلام مؤجلة.. فيغرفة الجلوس وجدتهم متحلقين حول مائدة الفطور، تلك التي لم تسمح لها العجلة يومها ان تشاركهم الطعام، اللهم الا من رشفة قهوة اخذتها وهي واقفة اتبعتهابقضمه كبيرة من الكسرة التي أعدتها أمها،لاكتها بضع مرات لتبتلعها بصعوبة دون حتى ان تتذوق طعمها ثم سارت نحو الباب لتخرج ثم تداركت لتعود بضع خطوات للوراء، تمرر يدها على ماكينة الخياطة وهي تقول لامها بنظرة حاسمة:هذي مكانها قبو مظلم حتى لا تجلسي عليها مجددا، سوف أجد لها مكان اخر.. أكملت جملتها تلك وانصرفت دون حتى ان تسمع الرد... على ذلك الطريق الزراعي الغير ممهد للسيارات تسير مسافة اثنان لكم لتصل الى مفترق طرق، حيث تجد النقل الريفي في انتظارها لينقلها الى البلدة المجاورة حيث تعمل في مكتب البريد.. لطالما حلمت ان تصبح ساعي بريد، ترى بتمعن ذلك الانطباع الأول للذين يستلمون الرسائل منها وهم يقرءون أسماء من أرسلوها لهم..هي تعشق الرسائل وأحيانا كثيرة في عملها كموظفة في مكتب البريد تمسك بالأظرفتتحسسها تتمنى لو تفتحها ثم تبدأبالتخمين..ما بداخلها؟ترى اهي رسالة حب امهومغترب الهبه الحنين والشوق الى الديار...؟ عالم من الفضول والتصورات تعيش فيه كل يوم... في مدينتي لا قواعد للفصول ويأتي الخريف فجأة...! ذلك المساء في طريق عودتها الطويل، غابة من أشجار الزيتون، تلك التي كبرت معها وتعرف كل اشجارها..ظلال لطالما استفاءت تحتها.. اليوم على غير العادة تشعر انها موحشة! أصوات نباح الكلاب من بعيد كأنها جرس انذار يدعم حدسها انه هناك شيء.! اسرعت الخطى وهي تتلفت خلفها لتلمح شبح طيف يتعقبها من بعيدويسرع للحاق بها.. احست بأنفاسها تتسارع وقشعريرة تسري في كامل جسدهاحين أدركت غايته منها.. تراءى لها ذلك الشبح بوضوح وقد اقترب، جسده ضعيف كأنه ذئب هزيل اضناه الجوع.. بشرته السمراء كثعبان ألف الجحور.. تركض وتركض مسرعة وذو العينين الصغيرتين اللتان تتقدان كعود ثقاب يلاحق أثرها في إصرار كطير كاسر فتح مخالبه واعدها للافتراس.. تعثرت لترتطم ارضا كقطرة مطر من السماء تعرف انه ما من عودة للارتفاع.. في تلك اللحظة استدارت في وقعتها لتجده واقف عند قدميها..حينها فقطاحست بطعم قطعة الكسرة التي ابتلعتها في الصباح في فمهاتستشعر لذتها ومذاقها العجيب..وتراءت لها صورتهم حول الطاولة! لما لم اجلس معهم لما لم اقبل خد امي واعانقها ولما لم اضحك معهم وهم يتشاركون الطعام.. استفاقت على قبضته القوية التي تحاول نهشها لكن قبضتها على عفتها كانت اقوى منه.. حاول ذلك الذئب الجائع لكنها ولأول مرة تتحول من زهرة برية الى شجرة صبار تنشب اشواكها الحادة في رقبة المعتديفيسيل دمه الفاسد الاسود كظلام روحه.. اشطاط غضبا وبلا تفكير او تردد سحب سكينه من جنبه وسدد لها طعنة في الصدر كانت نافذة جعلت دمائها الحارة تتدفق في غزارة كطير عرف باب الحرية أخيرا.. نهض عنها يلهث وقد فشل في بلوغ غايته،تأملها قليلا وهي جسد بلا حراك ثم انتبه الى حقيبتها تماماكأحد الضباع حين يبحث بين الجثث عن عظم يعضه ويصبر به جوعه.. هاتف وكيس نقود هزيل رمى حقيبتها بعد ذلك بعيدا ثم امسك بإحدى ساقيها ليجرها وغايته ان يرميها في بئر قريب لتختفي جريمته عن الأنظار..وما ان حركها حتى انسدلت خصلة من شعرها لتكشف له عن ابتسامة رسمت علا وجهها! انتفض فزعا كمن لدغته عقرب سامة ولاذ بالفرار حاملا معه ذلك الذنب وهو غير مصدق كيف يبتسم من يذوق الموت بأبشع صورة!! ابتسمت في وجه الموت حين أدركت أنها عاشت شريفة وستموت شريفة. |