صورة شاقة
تناولت السيدة فاطمة كيس الفاصولياء من أعلى الرف الوحيد الذي يتوسط مطبخها المتواضع المجهز بقنينة غاز متوسطة الحجم و خزانة صغيرة باهتة اللون و بعض الأواني المنزلية و برميل قصديري تحت الرف الغرض منه تخزين الدقيق بعيدا عن قواطع الفئران التي تمشط و تجوب المنزل بعد خلود الجميع للنوم.
رفعت كيس الفاصولياء أمام عينيها إلى مستوى جبهتها و نظرت إلى السقف كمن انخرط في تفكير عميق في أمر جلل. قدرت أن ما بقي لها من فاصولياء قد يكفيها و طفليها لثلاثة أيام و قد يكفي طفليها لأكثر من ذلك، ربما لخمسة أيام كأبعد تقدير لو استطاعت تقليص حصتها الخاصة إلى لقيمات قليلة تمنع بها نفسها من فقدان الوعي من شدة الجوع و الوهن لا غير.
جلست على برميل الدقيق و لازال الكيس بيدها و أسندت ظهرها للحائط الأبرص و أخذت تفكر :
- ثم ماذا سوف يحصل بعد انقضاء الأيام الخمسة تلك ؟ لا بد و أن الوقت قد حان لأنسى كبريائي و أطرق باب الجيران و أطلب منهم إقراضنا بعض النقود نتدبر بها أمورنا إلى أن تنقضي هذه الأزمة و تعود المياه إلى مجاريها، ليست مياه حياتي بتلك العذوبة و الصفاء اللذان أرجوهما لكن عليها أن تعود لتجري كما كانت من قبل. لقد نفذ مني آخر فلس تسلمته من لالة فتيحة زوجة المحامي.
تنهدت بعمق و استمرت محدثة نفسها :
- كل النساء لزمن اليوم بيوتهن و أصبحن بين عشية و ضحاها تغسلن ملابسهن و ملابس أطفالهن و أزواجهن، أصبحن ترعين بيوتهن بأنفسهن، تطهين و تكنسن... لا يحتاجني اليوم أحد ! و حتى إن احتاجني فلن يستدعيني على الأرجح خوفا مني على نفسه و على أولاده من أن أكون مصابة بالعدوى فتنزل عليهم المصيبة بسببي، لكنني بحاجة إليهم، نعم حاجتي إليهم أمر مفروغ منه لكنني لن أطلب معروفا من أحد ! كلا لن أفعل ذلك أبدا ! قد أطلب قرضا لكنني لن أطلب صدقة من أحد، على الأقل لن تخرج من فمي أنا، من أراد مساعدتي من تلقاء نفسه فمرحبا به سأقبلها منه بكل سرور... و هل في وسع الغريق أن يرفض طوق نجاته !
سمعت طرقا صاخبا على الباب الخشبي للمنزل انتزعها من تفكيرها، و هرول الولدان إلى داخل المطبخ في نفس اللحظة يتسابقان و يتكلمان معا في نفس الوقت، فنهرتهما و أمرت أحمد بأن يصمت و يدع الكلام لمحمد الأكبر منه.
نظر إليها محمد بعينيه السوداوين الواسعتين و قال و هو يفرك رأسه :
- هناك من يطرق الباب و بيده قفة تبرز منها قنينة زيت و قالب سكر...
قفز قلبها بين أضلاعها من الغبطة و السرور و انحنت على الطفلين تعانقهما و لسان حالها يقول "لقد فرجت و الحمد لله ! لقد فرجت".
لكن الطفل أحمد تخلص من عناقها و تراجع خطوتين إلى الوراء باسطا ذراعيه كأنه يسد الباب بهما لكي لا يخرج منه أحد و حدجها بنظرة ثابتة و قال :
- لن تخرجي إليهم يا أمي، لقد كنت قبل وصولهم إلى بابنا أرقبهم من النافذة، و قد سمعت حامل القفة يأمر الآخر بإعداد الهاتف بسرعة ليلتقط صورة لنا و نحن نتلقى المساعدة ! لا شك و أنهم يودون نشرها و التبجح بها !
نظر إليه أخوه محمد و السيدة فاطمة فاغرين فاهيهما و كأنهما لا يفقهان مما يقول حرفا. استرسل و هو يرمق أمه بنفس النظرة :
- سوف أخرج لملاقاتهما أنا يا أمي و سأستلم منهما تلك القفة و أبتسم لهما و لهاتفهما الباهظ الثمن ابتسامة عريضة شاكرة و أعود إليكما .. انتظراني هنا...
و استدار متوجها نحو الباب ! لكن أمه أسرعت و شدته من قميصه و جذبته إلى داخل المطبخ ثانية و وضعت كلتا يديها على كتفيه ثم أدارته نحوها و سألته بصوت يفيض عطفا و عينين مغرورقتين :
- أخبرني أولا لماذا لا تريدني أن أخرج إليهما أنا يا أحمد ؟
فنظر إلى الأرض و أخذ يرسم دائرة وهمية بأصابع قدمه على أرضية المطبخ و أجابها في شبه همس :
- إذا ما نشر هذان الرجلان صورتي على الفيسبوك و أنا أستلم القفة فسوف يسخر مني الجميع في المدرسة عند عودتنا للفصول من دون شك !
ثم رفع نظره و ركزه في عينيها و أكمل:
- أنا متأكد من استطاعتي على تحمل سخريتهم مني، ما لست متأكدا من قدرتي على تحمله هو سخريتهم منك يا أمي !!
ثم حول نظره ثانية نحو الأرض و هم بقول شيء آخر لكنها قاطعته بضمها له لصدرها بقوة و هي تهمس في أذنه :
- كلا لن تتحمل سخريتهم منك يا حبيبي، و قد يدفعونك في آخر الأمر بتنمرهم عليك إلى ترك المدرسة، فأنت طفلي و أعلم حدود قوتك، و لتعلم يا صغيري أنني أتألم كل يوم لأن لي طفلان كتب عليهما عيش طفولة فقيرة، لكنني سوف أتألم أكثر لو أصبح طفلي أحمد فقيرا و غير متعلم أيضا !!
ثم قبلت رأسه و هي تجاهد لتبتسم و أردفت :
- لا تقلق فلن يتعرف علي أحد و لن يسخر منكما أحد...
و نهضت فتناولت لثامها المعلق في مسمار وراء الباب و غادرت المطبخ تاركة أحمد وراءها متسمرا ينظر نحو الأرض شاردا و ذراعاه متدليتان نحو الأسفل و الدموع تنهمر غزيرة على خديه...
شكرا ✌️