في الغرفة قرب جدتي وهي على فراش مرض يفتك بها منذ شهر، قالت بألم:
- ابنتي العزيزة أعرف أنه حان موعد لقائي مع خالقي
قاطعتها والدموع تملأ عيني :
-لا تقولي هذا يا جدتي، ستشفين ان شاء الله
ابتسمت باستهزاء وقالت:
-أي شفاء تتحدثين عنه وقد حار الأطباء في أمري؟ المهم ان كان أجلي قد حان فلأرحل متخلصة من عبئ أحمله على عاتقي منذ سنوات.
بدأتها نوبة السعال الذي ينتابها لكنه أحد هذه المرة، أردت أن أحضر لها الماء فمسكت يدي، وأومأت برأسها رافضة وحاولت في خضم نوبتها أن تقول:
- أنت... كح كح كح... لست.. كح كح كح.. ابنتنا الحقيقية.
ثم أشخصت ببصرها تنظر إلى السقف. رفعت رأسي أيضا أنظر إليه لربما كانت تحدث أحدا غيري تفضي له بكلماتها الأخيرة. لكني لم أجد في الغرفة سوانا. ناديتها مرارا، فحصت نبضها فلم أجده، نفسها كذلك، 'هل فارقت الحياة؟'
في هذه الأثناء عاد والدي من الخارج، فدخلت أمي تقول:
- كيف حال جدتك؟
وجدتنا دون حركة لا هي ولا أنا. تفحصت الجدة وبدأت تحركها لتنهض، وتنادي' عبد الله عبد الله أسرع' جاء أبي هرولة ليعلن بعد فحصها أنها فارقت الحياة.
بدأت الدموع تجد سبيلها في أعينهما والدعاء لها بالرحمة والمغفرة لها يملأ الغرفة. وأنا لازلت في مكاني أقول في نفسي' ماذا قلت يا جدتي؟ استفيقي لتشرحي لي ' غادر والدي ليقوم بواجباته تجاهها أما أمي فأخيرا انتبهت لي، فنادتني:
- ما بك يا ابنتي؟
تركت عيناي أخيرا جسد جدتي وتوجهتا تنظران بذهول لوجه هذه السيدة التي منذ وعيت للدنيا وانا اناديها أمي. ساعدتني على النهوض ثم رافقتني لغرفتي ومددتني في سريري ثم مسحت على رأسي وقالت:
- هذه هي سنة الحياة يا ابنتي، حياة يعقبها موت وفناء مهما طالت سنواتنا فيها. ادعي لها بالمغفرة والرحمة وأن نلحق بها مسلمين.
أومأت برأسي إيجابا فقبلت جبهتي ثم غادرت الغرفة.
مرت مراسم الدفن و العزاء، غادر جسد جدتي البيت نحو مثواها الأخير آخذة روحي معها تاركة لي جسدا كلما نظر صوب المرآة تساءل' من تكونين؟ '
لاحظ والدي ذهولي وحزني طوال الوقت فاعتقدا أنه ألم الفقد، فلأول مرة أحضر وفاة شخص عزيز علي، إذن لابد أني أعيش صدمة عاطفية، فقررا الالتجاء لمساعدة نفسية علي أتجاوز هذه المحنة.
حان الموعد ورافقني والدي نحو العيادة، بعد ساعة من الانتظار، دخلنا الغرفة، كانت سيدة طيبة مبتسمة طوال الوقت تبعث الاطمئنان، سمعت من والدي حكايتي قائلا:
- توفيت جدتها بين يديها منذ أسبوع وطوال هذه المدة وهي شاردة حزينة لم تخرج ولو دمعة واحدة من عينيها كما لا تتحدث إلا إشارة بالايجاب أو الرفض حين نقطع شرودها بسؤالها عن الطعام أو الخروج من غرفتها او غيره، لا نعرف ما يحصل لها لذا رغبنا في استشارتك.
فهمت الطبيبة ما يجري بل هكذا ظهر لها، فقررت التحدث معي على انفراد وهذه نقطة تحسب لها، فلو تركتنا معا لما سمعت مني حرفا ولخابت معرفتها للعلوم النفسية معي. انصاع والدي للطلب، وقبل أن تبدأ التحدث بالموعظة قاطعتها سائلة:
- ماذا تفعلين مكاني إن باحت لك جدتك وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة أنك لست ابنتهم الحقيقية؟
شخص بصرها متفاجئة فيبدو لم يسبق ورأت حالة مشابهة. كان لابد أن أقول لها هي الوحيدة التي أستطيع أن أبوح لها بما يجول في ذهني طوال هذا الأسبوع، فأردفت باكية فقد حبست الدموع في مقلتي طوال كل هذا الوقت والآن وجدت سبيلها إلى خدي:
-كيف لي أن أواجه والدي بهذا الأمر؟ شخصين لطالما عشت معهما على أساس أنهما والداي الحقيقيين، إن أخبرتهما ما قالته جدتي هل تراهما سيجيبانني حقا من أكون؟ ماظنك هل أكون ابنة ميتم مجهولة النسب؟ أم ابنة أسرة فقيرة باعتني بأبخس ثمن؟ هل يا ترى مهم لي لهذه الدرجة معرفة والدي البيولوجيين أم أكتفي بمن ربياني طوال هذه السنوات الخمس والعشرين؟ أسئلة كثيرة تدور في رأسي منذ وفاتها، وكل مرة أردت غلق الموضوع فيها تبقى نزعة في النفس تدفعني لمعرفة أصلي وحقيقته. ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
اخفيت وجهي بين يدي واستمر نحيبي فقامت الطبيبة من مكانها وجلست بقربي، وضعت يدها على كتفي و قالت:
-لا بأس ابك حتى ترتاحي.
مرت نصف ساعة على حالي ذاك، وحين بدأت أهدأ أشاحت يدي عن وجهي وقالت وهي تمسح بقايا مدمعي:
-لم تفعلي شيئا لتخجلي منه، ارفعي رأسك. واعلمي أنك فاطمة نفس الفتاة قبل أسبوع، لا تدعي قولا عابرا لا نعرف صحته من باطله يغير من حالك. وكما قلت ما دور الوالدين البيولوجيين غير أنهما أوجداك في الحياة، لكن من سهر على تربيتك وراحتك وصحتك الجسدية والعقلية والنفسية هما من في منزلك. أبوك وأمك الحقيقيين هما من نشأت في كنفهما. هذه هي الحقيقة.
كانت نظراتها صادقة لصدق قولها، شعرت بالراحة لقولها، ابتسمت أخيرا بعد كل هذه المدة. ابتسمت أيضا وضربت لي موعدا بعد أسبوع فوافقت. ثم نادت على والدي للدخول، وشرحت له أن الصدمة كانت قوية علي وأنها ستساعدني ببعض المهدئات وبعض الجلسات، فارتاح والدي للخبر، رأيت فرحه فأشفقت على حالي أهلك نفسي منذ أيام وأنا أنظر إليه وأتساءل 'من يكون والدي الحقيقي؟'
خرجنا بعدها لأداء الفاتورة فأخبرتنا الممرضة أن الطبيبة لن تأخذ منا مالا وتتمنى للفقيدة الرحمة. خرجنا راضيين من عندها.
في طريق العودة للبيت سألني والدي هل أشتهي شيئا للأكل فلم آكل جيدا منذ وفاة جدتي. كنت حقا أشعر بالجوع، فجلسنا في مطعم وطلبنا الطعام وأكلنا، لكن كانت لاتزال حرقة بداخلي، لم أعرف ماهي.
حاولت عيش أيامي وكأن شيئا لم يكن، لكن بالليل تراودني كوابيس عن نفس لحظة الاعتراف المشؤوم ذاك. تجعل صباحي الموالي كئيبا جدا، مرت ثلاثة أيام على نفس الحال، حتى صرت أكره الليل وأهابه فقررت أن أضع حدا لهذا الشك.
حين حان موعد زيارتي الثانية للطبيبة، استيقظت صباحا، توجهت للحمام وأخذت مشط والدي ووالدتي، سحبت منهما بقايا الشعر المتواجد بهما. وضعتها في كيس صغير وغادرت البيت قبل استيقاظهما. اتجهت صوب المختبر وطلبت إجراء التحليل الجيني الذي قد يزيل حيرتي للأبد.
حين عودتي سألتني أمي:
- صباح الخير، لو أنك طلبت من والدك رفقتك.
أجبتها:
-لا داعي لإزعاجه لقد صرت بخير
فقالت:
-ماذا قالت الطبيبة؟
ابتسمت وأنا أضمها وأقول:
-كل شيء سيكون بخير.
ضمتني أيضا وقالت:
-لا شيء في الدنيا يضاهي ابتسامتك هذه. آسفة لأني تركتك معها لوحدك وهي على فراش المرض، لو كنت أعلم الغيب لما..
قاطعتها:
-لا تعتذري، خير ان شاء الله
مر اليومان كشهر من شدة التوتر، كنت أفكر في كل الاحتمالات، حتى استقريت على أخفها لربما اكون ابنة أمي غير الشرعية لذا جدتي قالت تلك الكلمات. لوهلة تمنيت أن يكون هذا هو الواقع.
في اليوم الثالث تلقيت اتصالا من المختبر يخبرني أن النتائج ظهرت. اتجهت صوب والدي أخبره بخروجي متحججة بلقاء صديقة قديمة، ابتسم إلي وقام من مكانه متقدما نحوي، مد يده لجيبه واخرج النقود وقدمها إلي قائلا:
- أعرف أنك لا تحتاجينها لكني اشتقت لأيام كنت أعطيك فيها مصروفك اليومي، خذيها، اخرجي واستمتعي بوقتك.
قبل جبهتي وغادرت. خرجت من الباب وبدأت أتلمس النقود التي بين يدي، تذكرت أيام الدراسة وكيف كان لا يبخل علي بشيء. شعرت بغصة في قلبي. ضغطت على صدري بقبضتي ثم مضيت في طريقي.
وصلت للمختبر وقدمت إيصال التحليل، وبعد هنيهة قدم لي العامل النتيحة. ظرف أبيض مغلق بإحكام قد يغير كل حياتي ما إن أفتحه.
تسارعت دقات قلبي ما إن مسكته بدأت أبحث عن أقرب كرسي لأجلس عليه، فيبدو وقد خارت قواي. اتخذت متكأ وبدأت أتنفس بعمق علي أستعيد هدوئي، ثم تأملت الظرف الذي بين يدي، أردت فتحه لكني لم أستطع ذلك، الرجفة التي اعترت يدي لم تسعفني. فلأأجل فتحه إلى أن أكون مستعدة. هذا ما قررته قبل الخروج من المختبر والتوجه لأقرب متجر للتسوق. فلن أجد خيرا من التسوق كمضاد لاكتئابي الحالي. اقتنيت بعض الملابس، ثم اتجهت لمقهى فاشتريت أربع كرات من المثلجات بنكهات مختلفة علي أستعيد حيويتي. وحين أردت الدفع استخرجت النقود من جيبي وإذ بها النقود التي أعطانيها والدي،تأملتها هنيهة قبل مدها للنادل. ثم هممت للعودة للبيت.
دخلت فاستقبلني والدي بابتسامة قائلا:
- أهلا بعودتك بنيتي، كيف مضى مساؤك؟
أجبته وأنا أحمل الأكياس متجهة إليه:
- بأحسن حال، وقد اشتريت بعض الملابس هل تحب رؤيتها؟
رد معتدلا في جلسته:
-بالتأكيد
بدأت أعرض مقتنياتي على مرآه وهو يمدح في ذوقي، لا أعرف لما لم أشعر بصدق اللحظات التي تجمعني معه، لما صار بكلمة واحدة غريبا عني؟ أنبني ضميري كيف لي أن أمسح خمسة وعشرين سنة بشك انتابني إثر قولها رحمها الله. 'جدتي حقا لا تستحقين الرحمة'
استأذنت والدي لأرتاح، وأخبرته أن يعتذر لوالدتي تخلفي عن العشاء الليلة فقد تعبت من كثرة التجوال. غادرت إلى غرفتي على نغمات تمنياته لي بأحلام سعيدة وأنا أقول في نفسي 'أي أحلام يا أبي فما عادت سوى الكوابيس تزورني في المنام'
دخلت غرفتي وأقفلت الباب بالمفتاح كغير عادتي، ألقيت الأكياس أرضا واستخرجت الظرف من حقيبتي. جلست على حافة سريري وعدت لتأمله، عادت لذهني كل الاحتمالات الممكنة. شعرت بالأسى على حالي واستسلمت للبكاء.
بكيت كما لم أبك من قبل. لما قدر لي عيش هذه اللحظات؟ أما كنت تستطيعين تركي أعيش بسلام؟ لما أردت قتلي ودفني معك حية أيتها الجدة؟ من يدري قد لا تكونين جدتي أصلا. والمفرح في الأمر ألا تكوني جدتي، فقد أثبت أنك قاسية القلب وباردة الدماء فلا يشرفني الانتماء إليك. يا ليتني مت قبل هذا..
قاطع بكائي طرقات خفيفة على الباب يعقبها نداء والدتي:
-فاطمة هل نمت يا بنيتي؟
قررت عدم إجابتها، فسمعت والدي يقول لها:
- دعي الفتاة ترتاح، لقد أخبرتك أنها تناولت شيئا بالخارج.
فردت عليه:
- لكن يا عبد الله، لم يسبق وتخلفت عن الطاولة، أخشى أن تكون بها علة. قلبي غير مرتاح أبدا.
سحبها والدي للصالة، فتساءلت' كيف لقلبك أن يؤلمك على فتاة ليست ابنتك الحقيقية'
هنا تذكرت قول الطبيبة:'لا تدعي قولا عابرا لا نعرف صحته من باطله يغير من حالك. وكما قلت ما دور الوالدين البيولوجيين غير أنهما أوجداك في الحياة، لكن من سهر على تربيتك وراحتك وصحتك الجسدية والعقلية والنفسية هما من في منزلك. أبوك وأمك الحقيقيين هما من نشأت في كنفهما. هذه هي الحقيقة'
أخذت الظرف، ولعنت اللحظة التي شككت فيها بحقيقة والدي فمزقته ثم مسحت دموعي وعدلت وجهي ببعض المساحيق ثم خرجت للصالة أبحث عن حضن من ربياني وأحباني أكثر ممن أنجباني فارتميت في حضنهما وأنا أقول : أحبكما جدا
ضماني أيضا إليهما وقال والدي:
-نحن أيضا نحبك
ثم نطقت والدتي مبتسمة:
- ما سر كل هذا الحب يا فاطمة؟
نظرت إليها وقلت مازحة:
- يبدو وأشعر بالجوع
ضحكنا معا ضحكات ملأت أرجاء البيت كله تعويذة أحيتني من جديد.
النهاية