اسمي جلنار، ومعناه زهرة الرمان، بهذه المذكرة قررت أن أكتب قصتي. من يدري قد تنفع شخصا ما مستقبلا.. 

قصتي ابتدأت منذ بلوغي الثامنة عشرة من عمري، كان احتفال عيد مولدي كبيرا جدا وصاخبا، فأخيرا انتقلت لمرحلة عمرية تخولني باتخاذ القرارات التي تخصني، مرحلة تسمح لي بالتأخر مساء في العودة للبيت، تمكنني من الذهاب لرحلات مع أصدقائي وكذا ولوج الديسكوتيك والرقص كما أشاء... وغيرها من الأشياء التي كانت محرمة قبل هذا السن. ومن ضمنها الوقوع في الحب.
ولجت أفضل الجامعات فقد كانت ميزة شهادة الباكلوريا تمكنني من الاختيار بينها. كنت من المتميزين، حيث مرت خمسة أشهر الأولى بتحصيلي أفضل النتائج، مما جعل المنافسين يتقربون مني ويرغبون بصداقتي ذكورا وإناثا، لكني كنت متحفظة لا أأمن بالصداقات، إلى أن حضر شاب جديد للفصل انتقل حديثا في النصف الثاني من السنة.
لم يكن وسيما بالشكل الذي سيبهرني لكن ما شدني فيه كان شيئا لم يسبق ورأيته في أعين غيره من الشباب، تلك المسؤولية والجدية في تحملها، حقا أبهرتني.
كنت أرغب في التعرف عليه والتقرب منه فقط لأفهم تلك الملامح التي رأيتها، لكني لم أعرف كيف سأفعل إلى أن تغيب يوما عن الصف، كانت تلك أفضل فرصة استغليتها لأفتح معه الحوار، فما إن حضر اليوم التالي للجامعة وقبل ولوج الأستاذ للفصل اقتربت من مكان جلوسه المعتاد في الصف قبل الأخير ثم ألقيت التحية وبدأت حديثي معه وكأنني صديقته منذ سنوات:
- جاد غبت البارحة عساه خيرا؟
رمقني بنظرة لم أعرف تمييزها نظرة دهشة أو حيرة أم فقط تعبير عن سؤاله الداخلي 'ماذا تقول هذه الغبية؟'
وقبل أن يلقي بتعليق قد يجرحني بادرته القول:
- على أي لقد نقلت لك الدروس التي فاتتك في هذه الأوراق مع الشروحات التي دونتها من فم الأساتذة.
وضعت الأوراق أمامه وغادرت لمقعدي الأمامي دون انتظار كلمة شكر منه أو من يدري لربما قبل أن يلقيها في وجهي تعبيرا عن سخطه عن تطفلي على حياته. مر اليوم دون أية ردة فعل منه ولا حتى كلمة شكر. أيضا منعت نفسي من النظر صوبه طوال اليوم وكأني لا أعرفه. تكرر الأمر بعدها مرات، كان كل أسبوع يغيب يومين عن الجامعة وفي كل مرة أنقل له الدروس وأضعها أمامه دون أن أنبس بكلمة أخرى غير تحية الصباح، بعدها أغادر لمقعدي وأكمل يومي عاديا دون سابق معرفة معه. إلى أن فاجأني مرة، بعد غيابي عن الجامعة لثلاثة أيام بسبب وفاة ابن عمي، حين وضع أمامي بضع أوراق فهمت من طريقته أنها الدروس التي فاتتني، لن تتخيلوا كم شعرت بالسعادة لدرجة أن فكرت بشكر قريبي كونه السبب لأعرف أنه أيضا يترقبني ويتفقد حضوري. مر اليوم وأنا في قمة الفرح، منتظرة بشوق نهاية الدوام لأهرع إليه أشكره على تعبه من أجلي.
وها هي الحصة الأخيرة انتهت، توجهت جريا لموضع جلوسه فلمحته مغادرا هناك قررت اللحاق به، بدأت أتتبع خطواته دون كلل ودون انتباه منه إلى أن وصل لحي فقير، منازله عشوائية ليست بها أبسط شروط صلاحية سكناها. تجاوز بضع منازل بعدها دخل إحداها. استرقت السمع من الباب اذ تركه شبه مفتوح. فسمعت الحوار التالي:
- كيف مضى يومك؟
- بخير يا أمي. كيف تشعرين الآن؟
- الحمد لله يا بني
- هل شربت دواءك؟
بعدها ساد صمت بينهما فاقتربت من الباب لعلي أسمع بشكل أفضل هنا فتح الباب ففقدت توازني وسقطت على صدر أحدهم رفعت بصري معتذرة فإذا به جاد يرمقني بنظرة حادة تنبئ عن غضبه الشديد.
خرج وأغلق الباب ثم مسكني من ذراعي اليمين وسحبني للأمام بضع خطوات بعيدا عن بيته بعدها تركني صارخا في وجهي:
-بأي حق تتجسسين علي؟
حاولت الدفاع عن نفسي لكنه لم يسمح لي بنطق أي كلمة مقاطعا إياي قائلا:
- قلت شاب غامض لا يختلط بالاخرين فلأرى من أي بيئة هو أليس كذلك؟
ثم أكمل مشيرا بيديه :
-من هذه البيئة رأيتها؟ هذا هو المكان الذي أنتمي إليه، لأن أمثالك ينهبون كل شيء لأنفسهم.
بعدها تقدم نحوي واقترب مني حتى أحسست بدفئ أنفاسه على وجنتي ثم قال وهو يهمس في أذني:
- الان ارحلي من هنا ولا تجعليني أراك مجددا.
كانت العبرات مقتحنة في عيني ما إن استدرت للمغادرة حتى وجدت سبيلها على وجنتي تتدفق دون توقف. ابتعدت خطى عديدة عن بيته لكن الحرقة التي في صدري كانت تزداد كلما زادت خطواتي، فقررت العودة والصراخ في وجهه أيضا لأني لم أستحق كلمة مما وجهها لي.
عدت أدراجي لبيته وحين وصلت وجدت الباب شبه مفتوح وقبل أن أطرقه تبادر لسمعي هذا الحوار:
-لا تتغيب عن دروسك مجددا فقد صرت بأفضل حال وأستطيع الذهاب للحصة وحدي.
- كيف تقولين هذا؟ أنا لن أتركك تذهبين لوحدك فلا تحاولي
- لكن يا بني هذا الحال سيطول إلى متى ستتحمل عبئي هذا؟
- أي عبء أستغفر الله، تعبي من أجلك راحة لي يا أمي. أتمنى لو استطعت إعطاءك كليتي وترتاحين من تلك الآلة وصوتها.
- رضي الله عنك يا بني ورزقك الخير كله
- امين وأطال لي عمرك
حزنت لما علمته من حال أمه، الان فهمت لما يتغيب عن الجامعة يومين كل أسبوع. لم أعرف هل أطرق الباب أم أعود أدراجي لكني تذكرت كلامه القاسي فطرقت الباب طرقات جنونية.
سمعت جاد وهو يسب:
-من هذا المخبول الذي يطرق الباب علينا هكذا؟
فتح الباب فوجدني أمامه، خرج وأغلقه ثم سحبني من ذراعي كما فعل المرة السابقة وقبل أن ينطق بحرف صرخت في وجهه دون توقف:
- من تظن نفسك حتى تصرخ علي بتلك الطريقة حينها؟ لا يهمني التجسس عليك ولا تهمني بيئتك هذه، كنت أريد فقط أن أشكرك لكنك لم تمنحني حتى الفرصة للدفاع عن نفسي، بل واتهمتني اني ومثلي ممن يعيشون في أحياء جميلة سببا فيما تعيشه. أنا لست السبب في معاناة أحد. وإياك إياك أن تهددني مرة أخرى فهمت.
بدأت ألهث ما إن أنهيت كلامي، اكتفى بابتسامة رسمها على وجهه وهم عائدا لبيته تاركا إياي في صدمة، فصرخت قائلة:
-ألن تقول شيئا؟
قال مكملا مسيره رافعا يده مودعا:
-نلتقي غدا في الجامعة
 ماذا يعني هذا؟ عدت أدراجي فتذكرت قوله لأمه أنه سيرافقها غدا للمشفى فخابت كل ظنوني عن ماهية اللقاء الذي ذكره. كان فقط يلهيني بقوله. مخبول.
مر اليوم ثقيلا جدا وفي المساء وأنا مغادرة الجامعة نادى صوت اسمي فالتفت فإذا به هو. تسمرت مكاني وأنا أراه يتقدم نحوي بابتسامة ساحرة وحالما وصل قال لي:
- آسف على تأخري بالكاد أنهيت عملي
شردت وأنا أتخيله يحاول جل النهار أن يلحق بموعده الذي ضربه لي. قاطع شرودي بسؤاله:
-هل ترغبين مرافقتي لك لبيئتك؟
ابتسمت له رضى ثم ترافقنا في الطريق لبيتي.
صار بعدها هذا حالنا كل يوم، يرافقني للبيت بعد الدوام. حتى في الأيام التي يتغيبها لأجل أمه يلحق بي مساء لمرافقتي. كنا بالطريق نتناقش في الدروس حينا وفي الحياة أخرى. بدأنا نعرف تفاصيل حياة بعضنا. كنت أشعر بالسعادة والأمان برفقته. صار نبض قلبي، لا يكتمل يومي إلا بوجوده. تمنيت لو يكون هكذا شعوره تجاهي، لكن أنى لي أن أعرف؟
في مساء يوم ربيعي وبعد عودتي من الجامعة، دخل أبي غرفتي ليخبرني أن هناك شابا يريد الزواج بي، كان ابن صديقه المغترب منذ سنوات. رفضت متحججة بالدراسة. لكن والدي أصر على لقاء مبدئي بيننا بعدها أقرر. شعرت بالحزن وكأن أحلامي ستتبخر، صحيح أن أبي لم يفرض علي شيئا من قبل، لكنه هذه المرة بدا متحمسا للفكرة. وأخشى أن يفرضها علي.
بت ليلتي أفكر في الأمر وأنى لي التخلص منه. وفي الصباح اتجهت للجامعة فلاحظ جاد وهني فقال:
- مابك؟ يبدو أنك سهرت الليل كله، ماذا حصل؟
أخبرته ما حدث، فبدت ملامح الحزن على وجهه، لكنه سرعان ما أخفاها وقال:
- أعطي الحق لوالدك، لا يجب أن تتسرعي في قرارك بالرفض قبل أن تلتقي به، من يدري قد يعجبك.
فكرت أن هذه هي الفرصة الوحيدة لأعرف مشاعره تجاهي، لذا تحليت بالشجاعة وقلت له:
- لكني أحب شخصا آخر، وهو من أريد الزواج به
سرح بنظره في عيني للحظة ثم قال بأسى:
- فاتني هذا الجزء، كنت أعتقد أني أعرف عنك كل شيء
- أحبك
نطقتها أخيرا دون مبالاة بالعواقب، ساد صمت بيننا فظننت أن الشعور من طرفي فقط فقلت:
- آسفة، لا تشعر بالاحراج فالقلوب وما تهوى وأنت..
- أحبك
تحولت بها دموع الخيبة لدموع الفرح، ارتميت في حضنه دون أن أتمالك نفسي، ضمني بدفء شعرت بحضنه أني ملكت الدنيا وما فيها. 
لم ندخل الحصص يومها، بل قمنا بنزهة طويلة، أخذني فيها لزوايا لا أعرفها في المدينة، كان أجمل يوم في حياتي. عدت للبيت وأنا في قمة السعادة.
بالليل وأنا أتهيأ للنوم، طلبني أبي للتحدث معه، اتجهت للصالة وقلت:
- كنت أتهيأ للنوم باكرا فقد نال مني التعب.
- أردت فقط أن أعلمك أن بدرا يريد لقاءك غدا.
- أبي أخبرتك أني لا أفكر في موضوع الزواج الان لذا لا داعي للقاءه
تجهم والدي وقال:
- لقد وافقت نيابة عنك حين أصر على رؤيتك له لربما تعطينه فرصة، وهو مستعد لينتظرك ثلاث سنوات أخرى ان أردت.
وافقت على مضض. ثم استأذنت للذهاب لغرفتي.
اول ما خطر في بالي أن أتصل بجاد، لكني عدلت على الفكرة، وددت أن يكمل يومه بسعادة، وماهي إلا ثوان حتى رن هاتفي معلنا على رسالة، فتحت فإذا هي منه، كلمات جد رقيقة جعلتني أنسى بدرا ومواله. تراسلنا حتى الواحدة بعدها خلدت للنوم.

يتبع..