ها أنذا أستقل القطار للتوجه نحو مدينة السلام قصد إجراء مقابلة عمل. تعتبر هذه أول مقابلة أجريها في حياتي بعد حصولي على شهادة الماجستير. لا أخفيكم شعرت ببعض التوتر لكني تجاهلته ما إن جلست في المقعد المحدد في تذكرتي مركزا انتباهي بمشاهدة المناظر الطبيعية عبر النافذة التي تفصل بيني وبينها سيدة أربعينية. كان الصمت سيد المكان، فما كان في تلك القاطرة يركب سوانا، وأنا قد اعتدت ألا أحدث الغرباء. بعد نصف ساعة كسر الصمت اتصال هاتفي تلقته تلك السيدة. من حديثها اتضح لي أن ابنها هو المتصل. وما إن انتهى الاتصال حتى توجهت لي بسؤال:
- ما اسمك؟
لوهلة خشيت أن تلومني أني سمعت دون قصد مني ما دار بينهما من حديث أقل ما يقال عنه أنه عادي بين الام وابنها. ترددت قليلا بعدها قلت:
-عثمان
ردت وهي تتأمل ملامحي:
-ما شاء الله، كم عمرك؟
يبدو أن الأمر سيغدو ركن تعارف! هل تراها تبحث لابنتها عن عريس؟ قاطع شرودي قولها:
-يبدو أني سببت لك الازعاج، اعذرني على تطفلي
ثم أدارت رأسها صوب النافذة. شعرت بالذنب لأني سببت لها الاحراج، فقلت مسرعا:
- لا لم أنزعج، لكني تفاجأت فقط.
أعادت بصرها صوبي مما طمأنني فأكملت:
-عمري ٢٤ سنة.
تلألأت عيناها بعبرات ملأتهما دون سبب، وعلقت ونظرها تائه في وجهي:
-ما شاء الله
هنا باغثتها بسؤال علي أشبع فضولي:
-هل قلت شيئا أزعجك سيدتي؟ لمحت عبرات في عينيك، أعتذر إن بدر مني شيئا ضايقك.
مسحت عينيها بأطراف أصابعها وهي تردد:
- لا لا يا بني لم تفعل شيئا يضايقني إنما تذكرت أحدهم فقط، سيكون بمثل سنك الان.
قلت بلطف:
- ان كنت ترغبين بإخباري عنه فلا تترددي.
نظرت إلي بشجن وكأنها تتخيله في ملامحي، ثم قالت:
-أحيانا يقوم الانسان بتصرف يخاله هو الأفضل له لكنه يندم بعدها.
شاركتها الرأي ثم أضفت:
-لكن أنى يفيد الندم حينها
تجلى لي أن كلماتي أيقظت فيها ذاك الألم الدفين حيث صارت تبكي وتقول:
-كنت في الثامنة عشر حينها، كيف لي أن أحتفظ به؟ كلام الناس وأبي.. لو علم أبي لكان قتلني أو رماني في الشارع.
فهمت أنها تتحدث عن رضيع تخلت عنه لأنه نتيجة خطيئة لم يكن له يد فيها، شعرت بالغل الدفين في داخلي يحيى من جديد فهاجمتها دون شعور مني:
- حتى لا تُرْمَي في الشارع رميته هو؟ ألم تسألي نفسك لمرة قبل الإقدام على ذلك، إن كنت أنت في الثامنة عشر ولم تستطيعي العيش بالشارع هل تراه ابن اليومين يستطيع فعل ذلك؟
- كان سيعثر عليه أحد ويضعه في ميتم.
- وهل حقا حدث ذلك؟
صرخت ودموعها لا زالت تنهمر:
- لا أعلم لا أعلم
أكملت صب حقدي قائلا:
- وأنت تلقينه لم تكترثي لأمره ولم تتبعي خبره ألقي حتفه من البرد والجوع أم حقا التقطه أحد المارة ووضعه في ميتم! أي قسوة هذه !! حتى قول ميتم وكأنه نجى بنظرك! هل تراك ترين ذاك المكان جنة الله في أرضه؟ يبدو وأنك تشاهدين أفلام الخيال العلمي كثيرا.
رفعت بصرها وهي تتنهد وكأنها تريد معرفة ماهية الميتم الحقيقية، هل تراه يظهر علي أني كنت نزيله أم فقط توسمت في علما أشاركه معها عنه؟ فقررت مشاركتها معاناتي فيه لعلها تتخيل معاناة ابنها لتفهم سوء فعلتها معه.
- هل تعلمين معنى أن ينام ابنك، كل ليلة بغلق عين واحدة فقط وفي يده سكين ليحمي نفسه ان حاول أحد استباحته، في حين كان بإمكانك إيواءه في حضنك ليشعر بأمان افتقده هناك؟
هل تعلمين معنى أن يتقاتل ابنك لحماية اللقمة التي يتصدق بها عليهم الميتم بيد أنها كانت قليلة لا تشبع بطون نازليه، لكثرتهم ولبخل مديريه إن لم نقل لأكلهم رزق اليتامي، حتى صار القوي فيهم يستولي على قسمة الضعيف ليسد بها رمقه. في حين كنت ستتخلين عن لقمتك لتسدي جوعه دون طلب منه حتى؟
لن يكون عيبا فقرك ولا غربتك دون أهلك، فقد كنتما ستؤنسان وحدة بعضكما عوض أن يتجرع كل منكما وحدته كل يوم.
ثم أكملت متهكما:
-وحدة أقول! لا أرى غير ابنك من غدا في الحياة وحيدا أما أنت فكما يبدو أسست أسرة وأنجبت أبناء غيره قدمت لهم ما حرمته منه.
بكت بحرقة لم أرها من قبل، لدرجة أن أشفقت عليها. تخيلت فيها أمي اعتبرتني قمامة تخلصت منها مما جعلني أجرحها بذاك الشكل.
مضت ساعة دون أن ينبس منا أحد بكلمة فقط شهقاتها تسمع بين الحين والاخر. لم أحاول مواساتها فمن تراها سيواسيني؟ ان كانت تذرف دموعها الان علنا فدموعي أشد وطأة لأنها تنهمر من قلبي منذ ولادتي.
دخل المراقب ومددنا له التذاكر كلا على حدة. بعدها مر بائع المشروبات فناديته، اشتريت كأس قهوة وبعض الحلوى، ثم استدرت نحوها وقلت:
-هل تريدين مثلي أمي؟ أم ترغبين بشيء آخر؟
أشارت لي أنها تريد بعض الماء، فاشتريت قنينة من أجلها وما ان غادر البائع قالت:
-شكرا لك
ابتسمت وقلت:
-لا داعي للشكر هي مجرد قنينة ماء.
-الشكر لمناداتك أمي.
ارتشفت من كأس قهوتي رشفة ثم عقبت:
- أمثالي يوزعون اللقب على كل سيدة تكبرهم سنا فلا تتحمسي للأمر كثيرا
طأطأت رأسها وقالت:
-فهمت.
وبعد دقائق صمت بدأت تحكي قصتها:
- كان شابا جيدا حقا، كنت أحبه حتى النخاع. وهو أيضا لم يبخل علي بحنانه وحبه. وعدني بالزواج ما ان ينهي سنته الجامعية. كان يكبرني بثلاث سنوات فقط. وثقت فيه فتحديت الأعراف والشرع ووهبت جسدي له تعبيرا عن حبي قبل ذاك العقد الذي لن يعبر إلا عن تمسكه بي أمام الملأ.
قاطعتها متهكما:
- لكنه خانك بالتخلي عنك أليس كذاك.
رمقتني بنظرة حزينة وأجابت:
- بل الأقدار خانتنا معا. فقد تعرض لحادث سير أودى بحياته.
كان آخر شيء توقعت أن تقوله، فعلقت :
- رحمه الله.
ثم أكملت:
- لكن أليس فيما تحكينه تناقض ما؟
سألت بحيرة:
-أي تناقض؟
- تقولين أنه أحبك وأحببته لكن في نفس الوقت تخليت عن ذكراه الأخيرة لك. أليس هذا تناقضا؟
ردت بأسى:
-أخبرتك لم يمكنني الاحتفاظ به. خوفي من أبي ومن المجتمع ما دفعني لفعل ذلك وبمشورة من أمي.
مهما حاولت الدفاع عن نفسها فلن تشفي حقدي على أمي، كونها أسباب وظروف واهية، فأين كانت كل هذه الاعتبارات وهي تمارس علاقتها في الخفاء وتتلذذ بها؟ ولأنهي هذا الحوار قلت:
- أريد أن أسألك سؤالا واحدا فقط. هل أنت سعيدة في حياتك؟
أدمعت عيناها وقالت:
- لم أنعم يوما بالراحة النفسية تأكد من هذا. فليس سهلا أن تلقي بفلذة كبدك للمجهول مرغما. وأعلم أنك لم تتفهم ولن تتفهم وضعي. ورغم أن رأيك في لا يهمني لكنك تمثل رأي ابني أيضا، أعرف أنه لن يسامحني يوما.
ثم أجهشت ببكاء مرير مرة أخرى. توقف القطار في محطته قبل الأخيرة، وصعد عدد كبير من الركاب فامتلأت القاطرة ولم أستطع لها شيئا. بدأت أعين الركاب تتساءل عن سبب بكائها. فتقدمت نحوها الراكبة التي أمامها وقالت:
-أمي ما بك؟ هل تودين مساعدة ما؟
أجابتها وهي تمسح عينيها:
-أبكي على ابني الذي فقدته
حاولت الراكبة مواساتها ظانة أنه توفي وتذكرها بوعد الله للصابرين، ثم دعت لها بالصبر والسلوان.
ما إن وصلنا لوجهتنا تثاقلت في النزول حتى تفرغ القاطرة وما إن تم لي ذلك أمسكت ذراع السيدة وهي تهم بالخروج من بابها فاستدارت إلي وقلت:
- آسف لأني قسوت عليك، فلطالما تمنيت لقاء بوالدتي الحقيقية لأفرغ فيها غضبي طوال هذه السنوات. لذا ما ان حكيت حكايتك استغليت الفرصة، فمن المستحيل أن يتم لقاءنا فلا هي تعرفني ولا أنا أعرفها. اعذريني حقا.
تأملت عيناي وقالت:
-لطالما تساءلت عن حاله، عن شكله، عن أخلاقه. لطالما تمنيت أن يسامحني يوما. أيضا لن أتعرف عليه ان رأيته. لذا دعنا نتخيل أننا أم وابن ودعني أجثو بين قدميك وأطلب عفوك عني عما عشته بسببي.
انحنت تقبل قدمي وتبكي طالبة العفو وأنا أحاول ردعها دون جدوى. ندمها ذاك قتل كل غل في داخلي جثوت أيضا نحوها أرفع رأسها وأضمها إلى صدري وأقول:
-سامحتك أمي سامحتك أمي، لا تبكي أرجوك.
كانت لحظة توقف فيها الزمن عندي، شعرت فيها بالأمان والراحة. فكم هو مرهق أن تعيش بحقد بداخلك يفقدك صفاء الروح و حلاوة الحياة.