لم يكن ( بيتر) المحامي الشاب يتوقع ما سيحصل له في هذا اليوم الغريب ، ولو في الخيال ... كان متأخرا كعادته ، ف( نيويورك) الساحرة بملاهيها الصاخبة جعلته يسهر
لوقت متأخر من الليل من دون أن يشعر ، فقد كان مستمتعا للغاية ، شعاره في الحياة بسيط لا تعقيد فيه : استمتع ثم استمتع ثم استمتع ... فالحياة لا تستحق العناء ...
بالكاد اسيقظ على صوت المنبه المزعج ، عينان منتفختان ، جسم مرهق يحتاج لراحة من هذا العذاب النيويوركي ، ومن هذا المحامي المستهر ... بتثاقل كبير جر قدميه إلى الحمام ،
أخذ حماما منعشا ، ثم توجه للمطبخ و أعد كوبا من القهوة الساخنة ، و شربها على أنغام موسيقى هادئة ... بسرعة هيأ نفسه ، راجع ملفاته ووضعها في حقيبته الجلدية الثمينة،
التي كانت هدية رائعة من والدته في عيد ميلاده الثامن والعشرين قبل شهرين ...
بسرعة خرج من شقته المتواضعة ، كان الجو باردا في هذا الصباح النيويوركي الجديد .. لحسن حظه لم يكن مكتب المحاماة الذي يعمل فيه بعيدا عنه ، وعلى غير عادته لم يستقل
المترو بل أراد أن يركب الحافلة ، فعلى كل حال المسافة قريبة ، ولن يتأخر كثيرا ... لم يدم انتظاره طويلا في موقف الحافلات حتى توقفت أمامه حافلة مع ابتسامة ساحرة من
سائقها المهذب المحبوب ... اتجه ( بيتر) إلى آخر الحافلة ، و جلس قرب النافذة التي أغلقها بإحكام ، فقد كان يشعر ببرد شديد .. كانت الأماكن المحيطة به شاغرة على غير العادة ،
أخذ هاتفه وشرع يقرأ آخر الرسائل التي وصلته ، فجأة رأى مفكرة صغيرة على الكرسي الذي بجانبه ، من أين أتت هذه المفكرة ؟ قال في نفسه مندهشا .. فلم تكن موجودة قبل
جلوسه ، و لم يكن أحد يشغل هذا الكرسي حتى تسقط منه او ينساها ربما ... لا يهم ، و أكمل قراءة رسائله دون أن يكترث لأمر المفكرة ..
- اهرب ... اهرب ... اهرب ...
انتفض ( بيتر ) في مكانه ، وهو يسمع هذا الصوت الغريب المنبعث من المفكرة .. نظر إلى الركاب الآخرين الذين كانوا أمامه ليرى إن كانوا قد سمعوا هذا الصوت ، لكن لا أحد
منهم استدار نحو المفكرة ، بل كانوا مشغولين بأمورهم الخاصة .. ازداد الصوت الغريب قوة :
- اهرب ... اهرب ... اهرب ... لا تقرأني ..
لقد تأكد الآن يقينا أن الصوت منبعث من هذه المفكرة المرعبة التي بجانبه ، والأسوأ من ذلك أنه هو فقط الذي يسمع هذا الصوت المخيف المتكرر ... أغلق هاتفه ، وابتسم وهو
يحدث نفسه :
- يا لك من غبي ! مفكرة تتكلم ... هههههه ...
حملق فيها جيدا ، انتظر وانتظر ..لكن لم يحدث شيء ، ولم يصدر ذلك الصوت المخيف مجددا ... و لسوء حظه قاده الفضول لعكس ما أمرته به تلك المفكرة المزعجة ..
كانت في حالة جيدة ، من النوع المتوسط ..حملها في يده ، ولبرهة أراد أن يسلمها لسائق الحافلة ، لكنه تراجع عن هذا القرار ، وقرر أن يطالعها قليلا ، ثم يتركها ،
وليته ما فعل ! وكما يقال : الفضول قتل القطة ... كان يطالعها بلهفة و استمتاع ... مواضيع مختلفة ، خطوط متنوعة ، كأنها مفكرة جماعية وليست لشخص واحد ...
- لقد هربت من المنزل بلا رجعة ، لا أريد أن أرجع لذلك الأب السكير المتعجرف ، أنا أتحكم بحياتي الآن.. لن يجدني أبدا ، فليذهب للجحيم ..........
وبخط آخر رديء نوعا ما قرأ :
- حبيبتي ( نانسي) لن أنسى تلك السهرة الرائعة لتي قضيتها معك في الفندق.. كانت رومانسية جدا .. .....
و بخط آخر أكثر وضوحا قرأ :
- لقد نجحت التجربة الأخيرة على الفئران 3و 6 و 8... أما الفئران 1 و 2 و 4 و5و 7 فقد أصيبت بنوبة قلبية حادة...
ظل يطالعها بشغف حتى وصوله إلى محطة نزوله التي لم تكن بعيدة عن مقر عمله . أغلق المفكرة و أراد أن يضعها في حقيبته على أمل أن يتسلى بها لاحقا في المكتب ،
لكنه بمجرد غلقها ، سمع الصوت المرعب بنبرة مخيفة قوية كادت أن تفجر طبلة أذنه :
- لقد حذرتك أيها الغبي !! اهرب اهرب اهرب ... لكنك لم تفعل ...
رأى أذرعا سوداء غليظة تخرج منها ، وهي تصرخ وتصرخ :
- أحضروه ... لا تتركوه يفلت ... أحضروا الغبي !!!..
في لمح البصر جذبته الأذرع المطيعة بقوة ، ورمت به في مكان مظلم مرعب ... سقط على وجهه ، وصرخ من شدة الألم ، و الفزع والرعب يملآن قلبه الشاب ...
المكان مظلم مظلم للغاية ، كان وحيدا يرتجف ،
- يا إلهي ماذا فعلت ؟ أين أنا ؟...
وهو يتحسر التقطت أذنه شيئا ما ، كأنه سمع صوتا بشريا لكنه غير واضح ..
- إنه الغبي الجديد يا دكتور ( ماكس) .. ألم أخبرك أنك ستخسر الرهان ، فالمفكرة دائما تفوز ...
و بينما هو متكور حول نفسه في الظلمة الحالكة التفت حوله عدد كبير من الرجال و النساء في حالة مزرية ، و مد أحدهم إليه يده اليمنى بينما كان يمسك مصباحا
صغيرا بيده اليسرى بالكاد يضيء جزءا صغيرا من المكان وهو يتراقص :
- ألم آمرك بالهروب؟ ... ألم تسمعني ؟
لم يستطع ( بيتر) الإجابة ، فقد كان مشلولا بالكامل ، مومياء تتنفس بصعوبة ...
توقفت الحافلة في محطة ( بيتر) التي لم ينزل فيها ، ولم يلاحظ أحد اختفاءه . ركبت عجوز في مكانه ، وقد رمقت المفكرة الملعونة بنظارتها القديمة ، كانت
بجنبها ، استغربت الأمر ، لكنها لم تسمع الصوت المرعب لثقل في أذنها :
- اهربي اهربي اهربي ...
كان الصوت ينبعث من فم آخر غبي اختطفته المفكرة ... فم ( بيتر) المحامي الشاب ... كان يصرخ عاليا رغما عنه ... فما كان من تلك العجوز إلا أن أخذت
المفكرة ورمتها من النافذة لأنها لم تعجبها ... عجوز حكيمة ... في ذلك المساء التقطها أحد المتشردين ، وكانت ليلة باردة جدا ، فرمى بها في برميل القمامة
وهو يشعل فيها نارا كبيرة يستدفئ بها مع آخرين ... كان ( بيتر) و الآخرون يصرخون من الألم ، يحترقون في برميل قمامة ... الفضول حرق القطة !!!
.......... تمت .........
