ذات يوم وأنا أقوم بجولتي الصباحية أستنشق فيها هواء الخريف المنعش، انتبهت وأنا أريح جناحي فوق إحدى الشرفات، إلى وجود قفص معلق في الداخل. اقتربت فإذا بعصفورة مبهجة الألوان جميلة المنظر سجينة مبتئسة بداخله يبدو من حالها أنها لم تستسغ فكرة السجن بعد. أهمني حالها وما إن غادر ذاك السمين المكان حتى رفرفت مقتربا من الزجاج أنقره بمنقاري الصغير علي أثير انتباهها فتلتفت إلي.لكن على ما يبدو أصابها الصمم من هول ما أهمها. كررت المحاولة مرتين دون جدوى وما إن حضر السمين حتى انسحبت مسرعا مرفرفا بجناحي طائرا للبعيد حتى لا أصير غنيمته الثانية. أمضيت يومي في أشغالي لكن حالتها المأساوية ظلت في بالي، فقررت العودة إليها مساء قبل رجوعي للعش.
وقفت على سور الشرفة بانتظار انتهاء الزيارة فيبدو أن السمين له معارف كثر. كانت قهقهاتهم مزعجة جدا. مرت ساعة على حالي تلك ما هون علي هو انتباه السجينة أخيرا لي. ما إن لمحتني حتى تخلت عن ركودها ودب فيها الأمل، بدأت تتحرك يمنة ويسرة وهي تنظر إلي كأنها تستنجد بي لأنقذها مما هي فيه. هل تراني كنت سأبخل لو كنت أستطيع!؟ أشرت إليها بجناحي أن تتمهل حتى لا تسقط من ذاك العمود المعلق. في هذه اللحظة التفت الحضور إليها فقاموا ملتفين حولها يتأملون جمالها وحركاتها، مما حجب عني رؤيتها للحظات. وما إن غادر الحضور حتى لمحتها عادت لتقوقعها القديم.
تقدمت أنقر الزجاج في محاولة يائسة مني لكنها سمعتني هذه المرة، نظرت إلي بحزن ثم أطرقت رأسها غير مبالية، يبدو أنها فهمت عجزي أمام استرجاعها لحريتها. لم أيأس فعدت لطرق النافذة بعد ذلك وناديتها مازحا:
- أيتها العصفورة، كيف هي الإقامة هناك؟
رمقتني بنظرة حادة تعبر عن غضبها فأكملت:
- أتعلمين أرى مكانك هناك أأمن لك من بطن ذاك السمين
انبثقت ابتسامة من منقارها مما جعلني مرتاحا بعدها في الحديث:
- لما كل هذا البؤس؟ يبدو أنك اختُرت لتعيشي ملكة
أكملت حديثي متجها للجهة الأخرى من النافذة :
- انظري للمدفأة مشتعلة تدفئ لك المكان، وانظري إلى الطعام يأتيك دون عناء
فردت علي مستهزئة:
- إن كنت ترى حالي أحسن من حالك فلنتبادل الأدوار إذن
أجبتها:
- لكني لست حسن المنظر مثلك، لن يطيق صاحبك الأمر مما سيجعل مصيري إلى المطبخ
تجلى السمين من باب الصالة فكان لابد أن أنهي الحديث فقلت غامزا:
- يبدو أن صاحبك سمعني ،
ثم أكملت محلقا:
- إلى اللقاء أيتها الجميلة سأعود غدا انتظريني
رحلت قبل أن تنبس بكلمة راضيا عما حققته من إنجاز، فعلى الأقل أخرجتها من صمتها، كان صوتها ناعما رغم الحدة التي أبدتها. قبعت ليلتي تلك أعيد شريط ذاك اللقاء الأول الذي كان بيننا وأنا كلي لهفة لتكليله بلقاءات أخرى.
في صباح اليوم التالي، توجهت مباشرة لرؤية الأميرة السجينة قبل ذهابي للعمل. كانت نائمة حين اقتربت من الزجاج. تساءلت للحظات هل أوقظها بنقراتي أم أتركها تنام؟ عز علي أن أرحل قبل رؤية عينيها السوداوين وسماع صوتها الناعم، فنقرت نقرات متتالية انتبهت لها مما أسعدني فقلت:
- صباح الخير أيتها الأميرة، كيف مضت ليلتك؟
استدارت للجهة الاخرى لتكمل نومها مما دفعني لإتمام حديثي مازحا:
- يبدو أنك سهرت الليل كله تحلمين بعودتي، طبعا فكل من يراني يحبني من أول نظرة
ردت بجفاء:
- ارحل من هنا
انصعت لطلبها وقلت:
- حان وقت عملي، سأرحل الان، لكن لا تقلقي سأعود مساء إلى اللقاء
تخيلت منظهر وجهها محمرا غضبا مما دفعني للقهقهة فسمعني صديقي العزيز فقال:
- ما سر هذه القهقهة يا صاحبي؟
حكيت له القصة في طريقنا للعمل، عادة يعلق على كل كلمة لكنه هذه المرة اكتفى بالصمت مما حيرني.
في المساء وقبل مغادرتي قال صديقي ذاك:
- الحياة بلا حرية كالجسد بلا روح. فلا تضغط عليها أكثر.
انطلقت إليها وكلمات صديقي ترن في أذناي، وصلت للشرفة وقفت على سورها وبدأت أتأمل تلك الصالة الواسعة وذاك القفص الضيق كأني أتخيلني هناك، فعلا كان الشعور موحشا للغاية.
انتبهت الأميرة إلي وقالت مستهزئة:
- مابك أراك صامتا اليوم، هل طردت من عملك؟
سرني تهكمها على الأقل اكتسبت مني خصلة ما. رددت بحياء:
- أنا آسف
استغربت من قولي وقالت:
- لما؟
أجبتها بحزن:
- كان علي أن أراعي وضعك وأفهم مشاعرك أكثر. حقا لم أقصد سوء، كل ما أردته أن تنسي واقعك هذا رغم مرارته، فما دمت لا تستطيعين تغييره وما دمت لا أستطيع مساعدتك في شيء فعلى الأقل تملكين القدرة على التعايش معه بدل تسليمك نفسك للموت البطيء.
للحظة ساد الصمت بيننا، كسره باب الصالة يفتحه ذاك السمين، ودعتها هاما بالتحليق بعيدا فقالت بسرعة:
- عد مجددا.
ابتسمت وأنا أحلق في السماء فرحا بطلبها ذاك.
مرت الأيام وأنا على حالي أزورها كل صباح ومساء نتسامر قليلا، تغضب حينا من كلماتي وتبتسم أخرى لمزاحاتي، وأنا كل الوقت مستمتع بلحظاتي معها ولو خلف الزجاج. حتى جاء اليوم المشؤوم.
كان يوما باردا جدا تجتاحه رياح قوية تنثر حبات الثلوج يمينا ويسارا، حاولت الطيران إليها لكن حالة الطقس لم تساعف جناحي فقبعت في عشي أتحسر على عجزي عن رؤيتها.
مر اليوم ثقيلا جدا تمر فيه الثانية وكأنها ساعة عكس ساعات لقاءاتنا أنا والأميرة حيث تتسابق فيها العقارب تنهيها في ثوان وكأنها تحمل ثأرا تتعقبه ما إن أتواجد فيها معها.
قبعت أتساءل عن حالها في هذا اليوم، على الأقل أنا مطمئن فيما يخص مأكلها ومشربها حتى من الدفء لها نصيب. لكني تساءلت هل تراها تفتقدني؟ هل تفكر في كما أفكر فيها؟ أتراها تتحسر على هذا الجو اللعين الذي حرمني منها؟
في الليل هدأت الرياح وكأنها أشفقت على حالي طوال النهار. لم أتخلف دقيقة واحدة، فأطلقت جناحي وانطلقت إلى أميرتي دون تردد. وصلت لسور الشرفة فوجدتها تنظر إليه وكأنها كانت تتأمل حضوري أيضا، دبت في قلبي فرحة ما لبثت أن نسفتها بقولها متجهمة:
- عاصفة صغيرة منعتك من الحضور إلي!
رددت باستغراب:
- عاصفة صغيرة؟ هل تستوعبين ما تقولينه؟
فردت بغضب:
- نعم أستوعب ما أقوله، لو كنت تهتم لأمري وتتحرق لرؤيتي كما أفعل لتخطيت كل العواصف.
لم اتمالك نفسي فرددت بغضب أيضا:
- سهل عليك أن تقولي ذلك وأنت في قفصك لم تجابهي تلك العاصفة التي وصفتها بالصغيرة. لا تعلمين معنى أن تحاولي الطيران والرياح تعيدك للوراء. طبعا فقد قصت جناحاك نسيت معنى الطيران أصلا.
رمقتني بنظرة حزينة ثم استدارت قائلة:
- ارحل من هنا
انتبهت للسهم الذي أطلقته بلساني لكن هيهات أن أسترده وقد أصاب قلبها الصغير. اقتربت من الزجاج قائلا:
- أنا آسف حقا لم أقصد
لم تجبني مطلقا، مما زاد بؤسي، لطالما كنت أحاول تسليتها وجعلها تنسى قيد حريتها صرت اليوم من يذكرها بواقعها المرير!
بدأت العاصفة الثلجية تهدد كل من يتواجد خارج منزله، قبعت بحيرة كيف لي أن أرحل تاركا إياها مكسورة الخاطر بسببي؟! وقفت على السور وقلت:
- حقا آسف، ولأثبت لك صدق اعتذاري لن أتحرك من مكاني حتى تسامحيني.
انحنيت حسرة لصمتها الدائم الذي كسرته بعض شهقاتها تخبر بعبرات حارة تجتاح محياها الجميل. مما زاد من غضب الرياح لكني ظللت مسمرا في مكاني لا أبالي بأزيزها المرعب وبردها الصاقع فداخلي كان أبرد منها لن يحييه إلا صوتها العذب يعلن غفرانها لي.

مرت دقائق وأنا على حالي تلك، نظرت إلي وقالت:
- ارحل قبل أن تمرض
رددت دون تردد:
- أن يصبني المرض أهون عندي من لعنة قلبك لي
تنهدت وقالت وهي تحرك جناحيها المقصوصين:
- لا أرى لعنة أصابت أحدا غيري هنا
ثم أكملت وأنا غارق في ندمي الشديد على ما قلته:
- كنت أراك حريتي، زياراتك نسمات الهواء المنعش الذي في الخارج، حكاياتك أطير فيها بخيالي كاسرة قيود الاقفاص والجدران. لكنك خربت كل شيء الان. لا تعاود الحضور مجددا. انتهت مهمتك. بل أنت أنهيتها.
بسرعة وبصوت عال:
- أعرف أني جرحتك، كانت ردة فعل على قولك لي
صاحت مقاطعة لي:
- إذن كلما سأستفزك بقولي ستعيرني بحالي أليس كذلك؟
لم أجد ما أرد به، هل حقا سيكون الأمر كذلك؟ شعرت بالأسى، حاولت الطيران إليها لكن جناحي تجمدا لم أستطع تحريكهما ولا حتى سيقاني الصغيرة، علمت أن أجلي قد حان لكني لن أسمح للموت أخذ روحي الان وأميرتي مجروحة مني, فقلت:
- ان كان موتي يرضيك فحقا أهب روحي لك. تذكري دائما أن الحرية في العقل لا الجسد، حلقي وكسري كل الحواجز والأهم من هذا كله لا تسمحي لحقير مثلي أن يعيرك بوضعك.
بدأت أشعر بدمي متجمدا فأكملت قبل أن يعقد لساني من البرد أيضا:
- تذكري رغم كل ما بدر مني فأنا حقا.. أحبك
كانت آخر كلماتي قبل أن أغيب عن الوعي وأنا أسمع صوتها يناديني:
- لا تمت أرجوك، افتح عينيك لا تمت.. لا تمت.. لا تمت..
بعد ساعات، بدأت أفتح عيني رويدا رويدا وأحاول التموقع في الواقع لأجدني أخيرا في غرفة دافئة حاولت النهوض فسمعت صوتها:
-تمهل
صوبت نظري لأجد أميرتي بجانبي لأول مرة لا يفصل بيننا حجاب، ابتسمت سعيدا كوني في الجنة، لكن يبدو أن حارسها بصوت خشن، مهلا هذا الصوت سمعته من قبل. قمت أتأمل ما حولي فإذا به السمين يتمتم بكلماته غير المفهومة نطقت بصدمة:
- أين أنا؟
ابتسمت وقالت:
- يبدو وحلت عليك لعنتي !
حاولت الطيران دون جدوى، فقلت فزعا:
- ماذا حدث؟
سردت لي أنها حين كانت تصرخ وترفرف بجناحيها سمع السمين صياحها وحضر مسرعا ليرى ما حدث، وحين انتبه لي متجمدا في الشرفة حملني ووضعني قرب المدفأة وما إن صرت أفضل قص جناحي ووضعني في القفص. ثم أنهت سردها قائلة بحزن:
- ليتك غادرت، ها أنت فقدت حريتك بسببي
حقا الوضع مؤلم لي لكن على الأقل سأكون شريكها في هذا الألم ابتسمت مرغما وقلت:
- لا تبتئسي يكفي أنك بجانبي
تأملتني بنظرة حنونة ثم قالت ملطفة الأجواء:
- إيه، ماذا كنت تقول قبل أن تفقد الوعي؟
احمررت خجلا وغيرت الموضوع وأنا ألتفت يمينا ويسارا:
- أليس لكم أكل هنا؟ أشعر بالجوع
ضحكت ضحكتها العذبة ثم نظرت إلي وقالت بنبرة خجولة:
- أنا أيضا .. أحبك
اقتربت منها وضممتها بجناحي فصار القفص عالما واسعا يسعنا لإنشاء أسرة سعيدة.