توفي أبي وأنا في السادسة من عمري، لا أحد يصدقني حين أخبرهم أن أبي لم يمت وأني أراه في المنزل يمشي بين الغرف وأنه كل الوقت حين يراني يبتسم إلي ويكمل سيره. لم يصدقوني بل واعتبروا الأمر مجرد تهيئات لفتاة صغيرة لم تستطع استيعاب معنى الموت بعد.
وفي أحد الأيام وأنا ألعب مع ابنة خالي، فجأة كسرت أغلى لعبة عندي، آخر لعبة اقتناها لي والدي. لم أتحمل الأمر فنتفتها من شعرها المجعد وطرحتها أرضا، هنا تدخلت كل أم فكانت المفاجأة أن عنفتني أمي وضربتني أمامهم في حين أني كنت أنتظر منها الدفاع عني. في تلك اللحظة جريت لغرفتي وبدأت أبكي وأنا أنادي "أبي أين أنت يا أبي" بعد لحظات أحسست بيد توضع على كتفي وأخرى تداعب شعري. انتبهت فرأيته نعم إنه هو أبي الحنون. ارتميت في حضنه باكية أشكو إليه ما حل بي، ظل طول الوقت صامتا يمسح على ظهري إلى أن هدأت. بعدها اعتدلت في جلوسي وأخرجت دفاتري وبدأت أسرد له عن يومياتي في المدرسة وأريه النقط الجيدة التي تحصلت عليها، كان يبتسم لي ويداعب وجنتي كما كان يفعل دائما. وما إن سألته:
- أبي لما لا تحدثني هل أنت غاضب مني؟
حتى قاطعتنا أمي بصوت مرتجف:
- حنان ما بك؟
استغربت سؤالها، كنت سأجيبها فتذكرت أنها ضربتني فجمعت دفاتري وواريتها ظهري ثم خرجت من الغرفة.
كانت تحاول طوال اليوم أن تراضيني لكني رفضت أن أغفر لها. كنت أنتظر الليل لأنام في حضن والدي.
في سريري تمددت وقرأت سورة الفاتحة والمعوذتين كما عودني والدي، وما إن انتهيت حتى جاء إلي وضمني في حضنه وبدأ يغني لي حتى غفوت.
صبيحة اليوم التالي، وجدت أمي تبكي وتخبر جدتي أنها لابد وتعرضني على طبيب نفسي. لم أفهم لما سأذهب للطبيب وأنا لا أحس بأي ألم. دخلت المطبخ فصمتتا. تناولت فطوري بسرعة ثم غادرت للمدرسة.
ما إن انتهى الدوام حتى وجدت أمي تنتظرني في باب المدرسة، احتضنتني وقالت:
- سأذهب أنا وأنت في مشوار.
أكملنا المسير وأنا واجمة لا أحدثها فأنا لم أسامحها بعد إلى أن وصلنا لعيادة طبية. حين دخلنا حاولت التملص من يدها لأخرج فرأيت والدي يبتسم لي ويطلب مني أن أجلس. جلست في غرفة الاستقبال فاستغربت أمي انصياعي  فجأة للأمر. بعد ساعة كان الدور عندنا.
دخلنا فاستقبلتنا الطبيبة بابتسامة وبعد التحية سألت عن سبب الزيارة الذي أنا أيضا أريد أن أعرفه ، هنا قالت أمي:
- لقد بدأ الأمر منذ وفاة زوجي، ظلت حنان تقول أنها ترى والدها في المنزل، لكنا لم نعر الأمر اهتماما حتى وجدتها يوما تتحدث لوحدها في غرفتها، وفي الليل أيضا انتبهت إليها تضم وسادة إلى صدرها وتقول لها "تصبح على خير يا أبي".
استغربت ما تقوله هذه السيدة كيف لي أن أضم وسادة وأقول لها أبي! هذا ضرب من الجنون.
التفتت إلي الطبيبة وسألتني غير مصدقة:
- هل ترين والدك حقا؟
أجبت صارخة:
- طبعا أراه. أبي حي لم يمت. لما لا تصدقونني.
قاطعتني الطبيبة سائلة:
- حسنا، هل يتحدث معك؟ أم يكتفي بالصمت ؟
صمت لأنه فعلا لا يحدثني، بل يبتسم لي فقط. هل تراه غاضب مني؟ لا يعقل فهو يبتسم في وجهي. أمي حين تغضب مني تمنع حتى عينيها من لقاء عيني. أما هو فينظر إلي طوال الوقت ويبتسم.
ابتسمت الطبيبة وقالت:
- من تحبين أكثر أمك أم أباك؟
أجبت بسرعة:
- أبي طبعا
ابتسمت لي ونادت الممرضة وطلبت منها اصطحابي لغرفة أخرى لتنفرد مع أمي قليلا.
بعد دقائق خرجت أمي وهي تحمل وصفة طبية. وما ان أدت واجب المعاينة حتى غادرنا. مررنا على الصيدلية واشترت لي الادوية.
دخلنا للبيت، أنجزت تماريني بمساعدة أمي، تناولت العشاء وقدمت لي قرصا لأشربه. شربته وذهبت للنوم.
مرت أيام على أخذي للأدوية بدأت ألاحظ فيها أن أبي قلل زياراته للبيت كما اعتاد. حتى في نومي لا أتذكر هل يضمني أم لا. بل أجد وسادة في حضني لا أعلم من أين جاءت.
خشيت أن يكون غاضبا لأني أتناول الدواء، فقررت ألا أشربه مجددا. فكانت أمي ما إن تضعه في فمي حتى أضعه تحت لساني وأشرب الماء وما إن تبتعد حتى أبصقه في منديلي الورقي. مر أسبوع على هذا الحال لكن والدي حقا لم يعد يأتي للبيت. اشتقت إليه حقا.
وفي مساء يوم السبت صرحت لأمي باشتياقي لوالدي وأنه ما عاد يزورني، ضمتني لصدرها وبكت لبكائي، وما إن هدأت حتى أخذت برأسي بين يديها ورفعته لمرمى بصرها وقالت بجدية:
- مادام لا يزورك إذن يريدك أنت أن تقومي بزيارته. غدا سأصطحبك إليه.
فرحت كثيرا لقولها وشكرتها وقبلتها، مسحت دموعها وابتسمت إلي. اشتقت أيضا لابتسامتها هذه.
في صبيحة الغد، أخذتني أمي إلى مكان لم أره من قبل، كان محاطا بسياج وله باب، فتحت أمي الباب بسحب خيط كان مربوطا به ثم دخلنا. كانت أرضا واسعة وبها حجارة مرصوصة منها المرصعة بالرخام ومنها الطبيعية. بدأنا رحلتنا بينها حتى توقفت قرب حجارة مرصعة بها كتابة ما، حاولت تهجي الحروف فلم أعرف سوى اسم والدي. فرحت لأن اسمه مكتوب هناك لكن ما هذا المكان؟ ما إن سألت أمي حتى انحنت إلي وضعت يدها على كتفي ثم قالت:
- حنان، نحن نعيش فوق الأرض بضع سنين وحين ننهي تلك السنوات ننتقل لنعيش تحت الأرض.
فهمت أن أبي انتقل للعيش تحت الأرض فسألتها:
- هل له أبناء هناك في بيته الجديد؟
ابتسمت فاهمة قصدي وأكملت:
- لا، بل يعيش تحت الأرض بمفرده وينتظر أن ننهي سنواتنا فوق الأرض أنا وأنت فننتقل بعدها للعيش معه.
فرحت لقولها وصحت:
- متى سأنهي سنواتي لألحق به إذن؟
ضحكت وقالت وهي ترش الماء على بيته:
- لا أحد يعرف متى ستنتهي سنواته فوق الأرض. ما نعرفه هو أنها ستنتهي يوما. فلتعيشي بخير وبسعادة إلى أن تنتهي فتأتين لأبيك وأنت أفضل مما تركك خلفه.
أحببت ما قالته وأعجبني جدا، لمحت سعادتي وقالت:
- هيا ودعي أباك لنفرق الحلويات على الأطفال هناك.
ودعته وأعطينا الحلوى للصغار الملتفين حول السور ثم عدنا للبيت.
في المساء أخبرتني أمي أنها ستزور الطبيبة لتستشيرها أن توقف إعطائي تلك الأدوية فاعترفت لها بفعلتي توقعت أن تصرخ في وجهي لكنها ضمتني وقبلتني وقالت:
- جيد أنك قلت لي حتى أعطيها المدة الحقيقية التي تناولت فيها الأدوية.
في صبيحة اليوم التالي غادرت للمدرسة وأنا كلي أمل أني سألتحق بوالدي عاجلا أم آجلا. سأعيش أيامي فوق الأرض كما تمناني أن أعيشها بجد واجتهاد وحسن خلق.
أبي أحبك..