- ألا تعلم قصة غاندي حين جاءت المرأة إليه ناشدة إياه أن يطلب من ابنها المحب له ألا يأكل السكر
قالها واثقا أني لا أعلم قصته، يحب صديقي لعب دور الناصح العارف معي. وأيضا أحب أن يشعر بالراحة وهو يلعب ذاك الدور فرددت راسما ملامح الجهل على وجهي:
- لا لا أعلم قصته
هنا انفرجت أساريره وأكمل بفخر:
- غاندي لم يحدث الابن يومها وطلب من أمه أن تعاود الرجوع بعد خمسة عشر يوما.
قاطعته باستغراب:
- لماذا بعد خمسة عشر يوما والأمر لن يأخذ إلا دقائق حينها؟
كانت غاية سؤالي أن يعيش في الدور فأنا أعلم القصة وأعلم الغاية منها. وفعلا سؤالي رسم على وجهه البسمة فعلق ردا عليه:
- بعد خمسة عشر يوما عادت السيدة فرحب بهما وأمسك وجنتي ابنها براحتيه وقال: بني لا تأكل السكر
السيدة استغربت مثل استغرابك وسألت مثل سؤالك معاتبة إياه.
فقاطعته بحيرة:
- ماذا كان جوابه إذن؟
نظر إلي متمعنا في عيني خشيت للحظة أن يكشف زيف نظرتهما الحائرة، لربما بالغت بها! ثم أردف:
- قال لها: يا سيدتي ما كنت أستطيع أن أخبره بذلك يومها لأني أيضا كنت آكل السكر، لكني في خلال هذه الفترة توقفت عن أكله فوجدت أن الأمر ممكنا لذا طلبت منه التوقف عن أكله.
ما دام لم يكتشف تمثيلي فلأرم الورقة الأخيرة حتى يسدل الستار على هذه المسرحية، فقلت:
- لم أفهم علاقة القصة بموضوعي؟
هنا وقف من مكانه واتخذ وضعية الأستاذ يلقي خلاصة محاضرته ثم قال:
- مغزى القصة يا صديقي، كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.
لوهلة كدت أصدق أني حقا اقتنعت بهذه النظرية، فنفضت الفكرة عن رأسي وقلت:
- يؤسفني أن أخبرك أنها فقط نظريات لا تمث للواقع بصلة. هي فقط خرافات.
استفزه قولي على ما يبدو حيث رد بنبرة حادة تعبر عن غضبه الشديد:
- غاندي كان حقيقة وعاش في الواقع، لا بد أن تتعمق في قصصه لتعلم أي انسان كان وليس أي نظرية كان.
- فهمت
كان قولي فقط لأنهي حواري معه، وطبعا لكونه صديقي منذ عشر سنوات فقد فهم وتفهم غايتي تلك ولم يزد على قولي حرفا. ارتشفت آخر القطرات في كأس قهوتي وهممت بالمغادرة، صحبني للباب وحين خرجت قال:
- محمد، لا نملك تغيير من حولنا لكنا نستطيع تغيير أنفسنا ونظرتنا للحياة. فكر في هذا الأمر.
أومأت له برأسي أني سأفعل، وغادرت. كنت أشعر بشيء يضغط على صدري فوددت لو يزيله هواء المساء البارد هذا، لذا أكملت مسيري سيرا لبيتي الذي يبعد مشوار ساعة عن بيته.
ظل كلام عثمان الأخير يتردد على مسمعي، أننا نستطيع تغيير أنفسنا، لوهلة تساءلت هل تراني أستطيع أن أغير نفسي من شاب أربعيني أفنى نصف عمره في عمل مكتبي دون اعتراف حتى بموهبته وجهوده، يرأسه مدير سادي لا يحب تطوير المواهب التي تحت إمرته بل يحبطها ويدفنها حتى لا تهدد منصبه. إلى شاب حر يزاول مهنة حرة تزيد من دخله ومن قيمته يرأس نفسه ويطور من نفسه؟ تلك الخطوة التي لطالما أردتها، لطالما تخوفت منها ولطالما أجلتها ألم يحن الوقت بعد لأقدم عليها؟
صحيح ما قاله صديقي، أنا لا أملك تغيير رئيسي ولا تغيير ظروف العمل، لكني سأغير إما من نظرتي لهما أو تغيير وجودي بينهما. وأراني عازما على الخيار الثاني. لن أدع التعاسة التي أعيشها كل يوم في العمل تدوم بين أضلعي لابد من التغيير لابد وأختار البحث عن السعادة.
شعرت بالفرح والحيوية بمجرد التفكير في كسر قيودي. فما بالي بتكسيرها!! فقررت تغيير نظرتي للحياة كما نصحني.
وصلت البيت فتحت لي زوجتي الباب، دخلت فاستقبلني ابني حسام ذو السنتين صارخا "بابا بابا" وهو يجري ثم ارتمي بين أحضاني، حملته وحضنته فاستشعرت حلاوة هذه اللحظة وكأني لأول مرة أضمه إلى صدري، ظللت على حالي هذا حتى قالت سناء:
- يبدو اشتقت كثيرا لابنك، سأغار منه.
تأملت وجهها وغضبها المصطنع كغضب الأطفال، فابتسمت غبطة واقتربت منها واحتضنتها بيدي اليمنى قائلا:
- لا تغاري فلك النصيب الأكبر في قلبي.
شعرت براحة في بيتي افتقدتها في زحمة الأيام، لطالما دخلت إليه بشحنات الخارج، من مشاكل في العمل، لسوء تفاهم مع ربه، لتوتر في السياقة بيد أن الكثيرين لا يحترمون قوانين السير وحق الأسبقية و و و .. ناهيك عن التفكير في المرتب وتقسيمه على النفقة وتسديد الديون.. حان الوقت لأوقف هذا الهم وأستسعر حلاوة اللحظات الآنية.
تناولنا العشاء، بعدها نام حسام. فجاءت سناء تجلس قربي وأنا مستلق أقلب قنوات التلفاز دون وجهة محددة وقالت:
- محمد، لدي ما أخبرك به.
وضعت آلة التحكم واعتدلت في جلوسي وانتبهت لها وقلت:
- ما الأمر؟
ثم بدأت بسرد حديثها المعتاد عن أمي وسوء معاملتها لها، ففي كل زيارة تقوم بها للبيت في غيابي أسمع هذا الموال، لكني اكتشفت أني في هذه اللحظة أنصت لها باهتمام ليس كالسابق كنت ما إن تبدأ الحديث عن أمي حتى أقوم صارخا " مرة أخرى نفس الكلام لا تملين، أنا تعبت سأخلد للنوم أمامي عمل غدا"
هذه المرة بدأت أتأمل ملامحها وهي تنطق كلماتها تعبر عن ألم كبير عن خيبة أمل وعن قلة حيلة، لأول مرة أدرك أن غضبها ليس للفعل بل لعدم رد فعل منها احتراما لي، ذكرتني بنفسي حين يظلمني المدير أو يقلل من شأن عمل أخذ مني أياما من الجهد كيف كنت أتألم كوني لا أستطيع الرد عليه كي لا أفقد وظيفتي. نبهتني من شرودي قائلة:
- ماذا أفعل يا محمد؟
نفس السؤال الذي أطرحه على نفسي طوال هذه السنوات، ماذا سأفعل؟ أمسكت وجنتيها بين راحتي وقلت:
- سناء، أقدر لك احترام أمي في غيابي، أرجوك لا تبتئسي فأفعالها لابد ولها سبب معين، ليس بالضرورة أن تكون كارهة لك من مبدأ زوجة الابن وأخذت الابن من أمه وتلك التفاهات لربما تريد أن تصقل فيك صفات كظم الغيظ والعفو على الناس مثلا.
ابتسمت وأنا أذكر السبب تهكما فقلت سريعا حتى لا تعيش في الدور:
- ابتسامتك جميلة ولو تهكما من كلام زوجك.
احمرت وجنتاها خجلا وقالت:
- لم أقصد التهكم على قولك يا محمد ولكن..
قاطعتها:
- دون لكن، تبقى فرضيات، لا أحد يطلع على ما في الصدور غير خالقها أليس كذلك؟
أومأت برأسها تأييدا لقولي فأكملت:
- سناء، نحن لا نملك تغيير الاخرين، لكننا نملك تغيير أنفسنا ونظرتنا إليهم. فكري في الأمر.
ثم قبلت رأسها وقلت:
- ارتحت الآن قليلا؟
أشارت لي بالإيجاب فقلت غامزا لها:
- ألا أستحق أجرا على ما فعلته؟ أعط الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، وعرق اقناعك بالقول أكبر من عرق حمل الأثقال..
سحبت وجهها من بين يدي وقالت لي واجمة:
- يا سلام، على أساس أني لا أقتنع بسرعة؟
أجبت دون تفكير:
- وهل عندك شك في هذا؟!
ضربتني على صدري وقالت غاضبة:
- اذن لا أجر لك عندي
ادعيت البكاء ألما وقلت:
- إذن فلأنم محروما مظلوما مكظوما وكل ما على وزن مفعولا .
ضحكت لقولي وحاولت إرضائي بقبلة على خدي لكني لم أكتف بها فأخذت أجري كاملا ليلتها.
في صبيحة اليوم التالي نهضت نشيطا كغير عادتي، أسابق الوقت لأراني في المكتب وكيف سأتصرف بافكاري الجديدة. وماهي إلا ساعة حتى دخلت المكتب، ألقيت التحية على زملائي فيه حسن وعلي ببشاشة، ثم جلست مكاني فتحت الحاسوب وسميت الله ثم بدأت بالعمل الموكل لي بتركيز. بعد دقائق رن جرس الهاتف فأجاب حسن وبعد أن أغلق الخط قال بنبرة جادة:
- اجتماع طارئ
فعلق علي قائلا:
- ليس من عادة الإدارة أن تطلب اجتماعا طارئا إلا لكارثة. اللهم سلم.
وما هي إلا لحظات حتى كان كل الموظفون في قاعة الاجتماعات. دخل شاب في الثلاثينات رحب بنا وترأس الاجتماع. كانت نظراتنا نحوه تتساءل من يكون هذا الشخص. ابتسم وقال:
- يبدو وتتساءلون عني من أكون؟
نظر إلينا فردا فردا وأكمل:
- أيضا أريد التعرف عليكم جميعا بيد أني مديركم الجديد.
تفاجأ الجميع بالخبر فشرح أن أباه اشترى الشركة وجعله مديرا تنفيديا عليها. أكمل الاجتماع بحصة تعارف على كل فرد شهاداته ومنصبه الحالي في الشركة ثم أنهى اجتماعه بتحديد موعد لاجتماع آخر صبيحة الغد.
خرجت غير مصدق لما حدث، ألهذه الدرجة تغييرك لنفسك يغير ما حولك! أم أنها مصادفة، رب مصادفة هي. طبعا لم أستطع إخفاء فرحي بترك المدير السابق لمنصبه فقد كان حقا غير مؤهل للإدارة.
عدت مساء لبيتي بعد يوم شاق فيبدو من فرحي لم أمل من العمل الذي كان بين يدي حتى أنهيته. لعبت مع ابني حسام ودللت زوجتي وحضيت بعشاء فاخر، وبعد أن نام حسام، وأنا ممد على السرير قلت لزوجتي وهي جالسة تمشط شعرها الكستنائي الطويل:
- سناء، لقد تغير مدير الشركة وغدا سيعقد معنا اجتماعا اخر. أراه قد يغير مناصب العاملين ومن يدري قد يلغي عقود بعضهم.
ردت بكل ثقة وهي تنظر إلي بعينيها العسليتين:
- وما سيضرك في ذلك، أنت شاب مثقف وطموح لم تتوقف عن الدراسة حتى بعد أن عملت في الشركة فحضيت بشهادات عليا. لا أراه سيستغني عنك.
ابتسمت لدعمها لي فلم أرد أن أخبرها عما خلقته لي تلك الشهادات من مشاكل مع مديري السابق الذي لا يمتلك نصفها حتى. اكتفيت بقولي لها:
- أتمنى خيرا ان شاء الله.
ثم أكملت مازحا وهي تتعطر:
- ألديك موعد ما في حلمك؟
رشقتني بنظرة حادة ثم قامت تهم بالخروج وهي تتمتم:
- أرى أني سأنام مع حسام هذه الليلة.
نهضت مسرعا إليها أمسكها من ذراعها قائلا:
- توقفي لا تتركيني أنام مع مخاوفي بشأن الغد
ثم أكملت مداعبا خصلات شعرها:
- على الأقل خديني معك في موعدك ذاك أنسى مخاوفي
وما إن همت بقول شيء حتى وضعت يدي على فمها وهمست في أذنها:
- لا تصرخي سيستيقظ حسام
ثم سحبتها من ذراعها قائلا بابتسامة ماكرة:
- فلنمض لرحلتنا هيا قبل أن يفوتنا القطار
ابتسمت وتبعتني بهدوء وامتطينا القطار معا في أجمل رحلة.
جاء اليوم الموعود، ونحن في غرفة الاجتماعات أعلن المدير عن تغيير المناصب كما توقعت. انتظرته أيضا أن يعلن عن إلغاء عقود بعضنا وكنت سأستقبل اسمي ضمنهم بكل أريحية فقد كنت طوال الطريق للشركة أقنع نفسي إن كنت منهم سأعتبرها فرصة لي لتحقيق حلمي بإنشاء عملي الخاص فأكون بذلك لم أخسر شيئا بل كسبت الشيء الكثير. وهو يعلن التغييرات أدرج اسمي فانتبهت له في أي مكتب سأصير فقال:
- محمد كامل، من شهاداتك اتضح لي انك شاب طموح ومن عملك في الشركة طوال هذه السنوات تبين لي أنك شاب خلوق ومتمكن من عمله، لذا قررنا أن تعتلي رئاسة قسم الانتاج. مبارك لك.
تلقيت الخبر بصدمة تنبهت منها بتصفيق زملائي وتبريكاتهم لي. وقفت وشكرته على ثقته ثم قلت:
- سأحرص أن أقوم بأحسن ما لدي
ابتسم لي ثم أكمل الإعلان عما تبقى من تغييرات.
مر اليوم بالانتقال من مكتبي القديم لمكتب فاخر لي وحدي، بعدها قمت بجولة في القسم أتعرف على سير العمل وعلى المجموعة التي تقوم بكل جزء منه. كنت في غاية السرور.
بعد الدوام مررت لبيت صديقي عثمان وما إن دخلت حتى بدأت بسرد كل الأحداث له وهل يمكن أن يكون للأمر علاقة بالتغيير الذي عزمته لنفسي، كان طوال الوقت يبتسم وحين انتهيت قال:
- أعظم التحولات تأتي من أصغر التغيرات، تغيير بسيط في سلوكك يمكن أن يغير عالمك و يعيد تشكيل مستقبلك.
نظرية أخرى لكني الآن بت متيقنا منها. فما يختار المرء للتفكير في نفسه والحياة يصبح حقيقة بالنسبة له. وأنا اخترت التفكير بإيجابية، اخترت السعادة وألا أضيع طاقتي في الافكار السلبية.
شكرت صنيعه معي وغادرت لبيتي لأبشر زوجتي بجديدي بعدها نذهب سويا لزيارة والدتي ومشاركتها فرحتي وأنا كلي أمل أن كل يوم سيأتي سيكون أجمل من سابقه.
النهاية
