اليتيم الحكمي (اللقيط) في الشريعة الإسلامية
المطلب الاول: تعريف اليتيم الحكمي، لغةً وشرعاً:
اليتيم الحكمي:
يأخذ كل طفل صفة اليتيم إذا فقد معليه وحاميه وراعيه، ويمكن أن يقاس عليه الأطفال الذين لهم أباء أحياء ولكنهم بعيدون عنهم في الحقيقة، إما لانشغالهم وإما لإهمالهم وتركهم بمفردهم في هذه الحياة القاسية.
ويمكن اعتبار هؤلاء الأطفال المتغلى عنهم في حكم الأيتام من الناحية الفعلية. ومن هنا جاءت تسمية اليتيم الحكمي؛ لأنهم بحاجة إلى الحنان والرءاية والمساعدة والنفقة كالأيتام الحقيقيين، ونذكر من أهمهم: اللقيط وهو الطفل الذي يلقي به أحد والد به في الشارع[1]متنصلا من تحمل المسؤولية، بالإنفاق عليه وبكفالته (واللقيط كل صبي ضائع لا كافل له). وكذلك أيضا أبناء الزنا وأبناء معاقون إعاقة يعجز الآباء عن تحمل نفقات رعايتهم.
تعريف اللقيط في اللغة:
قال: العلامة بن منظور في لسان العرب، تحت مادة، لقط: اللقط، أخذ الشيء من الارض، واللقطة بالفتح، جاي في الحديث، سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن اللقطة، فقال: " احفظ عفاصها ([2]) ووكاءها ([3])"([4])، ولقيط، على وزن فعيل، بمعنى مفعول، باعتبارها ما آل اليه- وهذه الكلمة في الدلالة على الطفل الملقوط مجازاً- لأنه آيل الى ان يلتقط في العادة، وتسمية الشيء باسم عاقبته أمر شائع في اللغة، كقوله تعالى "إني أراني أعصرُ خَمراً" ([5]) والذي يعصر هو العنب، ولكن سماه خمراً باعتبار المآل، وكالقتيل في قوله عليه السلام: " من قتل قتيلاً له عليه بينه فله سلبه ([6])" ([7]).
ثانياً: اللقط عند الفقهاء:
عرفه الحنيفة بأنه: اسم لحي مولود، طرحه اهله، خوفاً من العيلة، او فراراً من تهمة الريبة ([8]).
قال: (اسم لحي مولود) المراد به، ما كان من بني آدم، فما كان من الحيوان فهو لقطة، لا لقيطاً.
وقد اتحد المعنى الشرعي مع المعنى اللغوي، غير انه زاد هنا، قيد الحياة وهو غير ظاهر، لان الميت كذلك يحكم بإسلامه تبعاً للدار، فيغسل ويصلى عليه ([9]).
العَيْلَة: بالفتح، الفاقة والفقر : والريبة: الشك ([10]).
ويؤخذ على تعريف الحنفية أمور:
1.قولهم: (طرحه اهله) فاللقيط قد يطرح بغير سبب من أهله، كأن يكون ضائعاً ([11]).
2.قولهم: (خوفاً من العيلة، او فراراً من تهمة الريبة) فقد يطرحه اهله لأسباب اخرى ([12])، كعدم الرغبة فيه اذا كان معوقاً، وكالخوف من السلطة الحاكمة الطاغية، كما حدث مع موسى عليه السلام، قال تعالى: (وأوحينا الى ام موسى ان ارضعيه فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين، فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً) ([13]) ولم يكن خوف ام موسى من العيلة او الزنا، بل الخوف من فرعون.
3.يفهم من التعريف، ان اللقيط طفل حديث الولادة، او صغير غير مميز، اما الصبي المميز، والمجنون- ان كان بالغاً- فيندب التقاطه عند الشافعية، ولم يتعرض الحنفية الى ذلك ([14]).
4.لم يتعرضوا لكونه رقيقاً او غيره، مع انه ينبني على ذكره أحكام دينية ودنيوية ([15]).
وعرفه المالكية بقولهم:
اللقيط: صغير آدمي لم يعلم أبوه، وفي لفظ أبواه، ولا رقة ([16]).
والمعنى/ أي طفل، قاصر، لا يقدر على القيام بمصالح نفسه من نفقه وغذاء، قد تعرض للهلاك.
أخرج بقوله- لم يعلم ابواه- ، ما كان من ولد زانية، فعلمت أمه، فهي أولى برعايته.
وأخرج بقوله: -او رقه-، فاعتبر الرقيق اذا علم رقه، لقطة لا لقيطاً ([17]).
ووجهة نظري في التعريف انه غير مانع لإطلاقة لفظ "صغير آدمي" سواء أخذ ام لم يؤخذ، وحديثنا هنا عن المأخوذ، أي الملتقط، دون سواه.
وكان الاولى ان يضيف كلمة يؤخذ، فيقول: صغير آدمي يؤخذ، لم يعرف ابواه ولا رقة، ليكون بذلك مانعاً ([18]).
وعرفه الشافعية بقولهم:
اللقيط: هو صغير منبوذ في شارع او مسجد او نحو ذك، لا كافي له معلوم، ولو مميزاً لحاجته الى التعهد ([19]).
خرج بقوله "صغير" لاستغنائه عن الحفظ، الا ان يكون مجنوناً، او بالغاً تعرض للهلاك. "المنبوذ: هو الذي يُنبذ دون التمييز، ونبذة في الغالب اما لكونه من فاحشة خوفا من العار او للعجز عن مؤنته([20]).
" لا كافل معلوم" المراد بالكافل الاب والجد، ومن يقوم مقامهما، والملتقط ممن هو حضانة اخد هؤلاء، لا معنى لالتقاطه، الا انه لو حصل في مضيعة، أخذ ليرد الى حاضنه ([21]).
وقالوا: هو كل طفل ضائع، لا كافل له.
ويلاحظ من التعريفين ما يلي:
1.ان التعريف يشمل العبد وغيره، والعبد لقطة، لا لقيط، لأن العبد مال او في حكم المال.
2.يفهم من التعريفين ان الضائع والمنبوذ شيء واحد، وفي الحقيقة هما مختلفان، اذ المنبوذ من كان تركه قصداً، على خلاف الضائع ([22]).
وعرفه الحنبلة بقولهم:
اللقيط: طفل لا يعرف نسبه ولا رقة، نبذ او ضل الى سن التميز، وقيل: والمميز الى البلوغ، وعليه الأكثر ([23]).
وقال ابن قدامه في المغنى:
اللقيط: هو الطفل المنبوذ ([24]).
والاعتراض على هذه التعريفات كسابقتها، فهي غير جامعة- ومن شأن التعريف ان يكون مانعاً- لكونه لم يحدد سن الطفل او سن التمييز ام الى سن البلوغ.
بيان التعريف المختار
عرف الفقهاء في مذاهبهم المتعددة، اللقيط وفقاً للعرف السائد في مجتمعهم، والعرف قابل للتغيير حسب المكان والزمان، ومال الفقهاء الى ان اللقيط هو المنبوذ، استناداً الى حادثة حدثت زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كما جاء في الموطأ، عن ابن شهاب عن سنين ابي جميلة –رجل من بني سليم- انه وجد منبوذاً، فجاء به الى عمر، فقال له: ما حملك على أخذ هذه النسمة. قال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفة: يا أمير المؤمنين انه رجل صالح، فقال عمر: أكذلك؟ قال: نعم، قال عمر: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته ([25]).
وبما ان الولاية تكون غالباً على الشخص لصغر سن او عدم رشد، فقد قيد الفقهاء تعريفاتهم بالصغر دون تحديد سن معينة، تحول دون التقاط اللقيط، الا الحنبلة الذين قيدوه، بسن التمييز مع الخلاف، ومع ذلك لم تسلم هذه التعريفات من وجهات النظر المختلفة، فحاولت ان أوافق بين هذه الاختلافات، بالابتعاد عن مواضع الخلل.
ومن مجموع ما مضى من تعريفات ترجح لدي ان اللقيط:
آدمي، يؤخذ لحاجة الى الرعاية، منبوذاً كان او ضائعاً.
المطلب الثاني: الفرق بين اللقيط واللقطة
قد يلتبس على بعض الناس، الفرق بين اللقيط واللقطة، لما بينهما من تشابه في المبني، وفي المعنى، ولذلك سأتعرض للقطة هنا.
اللقطة في اللغة:
اللُّقْطة- بتسكين القاف، اسم الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه ([26]).
واللقَطة- بالفتح، المال المأخوذ.
وقيل للمال المأخوذ لقطة، لأن طباع النفوس في الغالب تبادر الى التقاطه.
اللقطة في الاصطلاح:
وللقطة تعريفات كثيرة في كتب الفقه، اخترت منها ما يلي:
اللقطة عند الحنفية:
هي: الشيء الذي تجده ملقى، فيأخذه امانة ([27]).
او أنها: مال يوجد ولا يعرف له مالك، وليس بمباح ([28]).
وهذا التعريف عليه بعض الملاحظات، ومنها:
قولهم: (الشيء، المال) يدخل فيه اللقيط، وكما هو معلوم، أن اللقيط ليس بلقطة.
كما انهم لم يحددوا (بالشيء)كونه من حرز او غيره، فلقطة الشيء من الحرز، تعتبر سرقة.
وعند المالكية:
اللقطة: مال وجد بغير حرز محتوماً، ليس حيواناً، ولا نعماً ([29]).
وهذا التعريف لا يخل من الملاحظة عليه، اذ في قولهم" (حيواناً ناطقاً) فهذا عام، يشمل كل انسان ناطق حراً، او عبداً، فان كان المقصود، العبد، سلم لهم بذلك، لان العبد مال، واما الحر فليس بمال، ولا يجوز بيعه بنص الحديث ([30]).
عند الشافعية:
ما وجد في موضع غير مملوك، من مال، او مختص ضائع من مالكه، بسقوط، او غفلة، ونحوها، لغير حربي، ليس محرز، ولا ممتنع بقوته، ولا يعرف الواجد مالكه ([31]).
وهذا التعريق اولى من غيره –فيما ذكر حتى الام- غير انه يؤخذ عليه، انه طويل.
وعند الحنبلية:
اللقطة: المال الضائع من ربه يلتقطه غيره ([32]).
ويؤخذ على التعريف انه فيه دور.
وقسم الحنبلة اللقطة الى ثلاثة اقسام:
1.ما لا تتبعه الهمة، كالسوط والشسع ([33])، والرغيف، فيملكه بلا تعريف.
بدليل، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل واشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به) ([34]).
كذلك التمرة، والكسرة، والخرقة، والامور التافهة التي لا يطلبها صاحبها عادة، فلا يجب تعريفها، ولا يجوز الانتفاع بها، من غير ضمان، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق، قال: لولا اني اخاف ان تكون الصدقة لأكلتها) ([35]). أي لولا خوفه ان تكون من الصدقة- التي لا تحل لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا لآله- لما كان مانع من اكلها.
2.الضوال من الابل، والبقر، وصغار السباع، وما يمتنع به نفسه، فلا يجوز التقاطها، بل يجب تركها، ودليله، ان رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال: (عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فان جاء ربها فأداها اليه). قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: (خذها فإنما هي لك او لأخيك او للذئب). قال: يا رسول الله، فضالة الابل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، او احمر وجهه، ثم قال: (ما لك ولها، معها حذاؤها وشقاؤها، حتى يلقاها ربها) ([36])، فالابل لضخامة جسدها، وطول عنقها، وقدرتها على تناول اوراق الشجر، من غير مشقة، مع صبرها على العيش في الصحراء مع قلة الماء، كان السبب في عدم جواز التقاطها.
3.وكذلك كل حيوان او طير تمكن فيه الطباع، ما يمكن ان يدافع عن نفسه بنفسه. فان التقطه –رغم عدم الجواز- كان ضامناً له، لأنه اخذ مال غيره، بغير اذنه، فهو كالغضب.
4.سائر الاثمان والأمتعة والاشياء التي يكثر ثمنها، ولا تعتبر من التوافه، فيجوز اخذه، ولكن يجب تعريفه عاماً، في المحلات العامة، وحيث يتكاثر الناس، لما تقدم من الحديث، ان النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن اللقطة فقال: " عرفها سنة" فذلك عام في كافة الامور، الا ما استثنى فيه الفقرتين السابقتين.
ورغم تفريع الحنبلة على هذا النحو، الا انه يؤخذ على التعريف انه غير جامع، وذلك لقوله: "المال الضائع" وهذا القيد يخرج منه، المال المتروك قصداً.
فالتعريف الذي أراه مناسباً للقطة هو:
مال وجد بغير حرز، محترماً لا نعماً ولا يعرف الواجد مستحقه.
ومما مضى من التعريفات يتبين لنا ان هنالك فوارق جوهرية بين اللقيط واللقطة على النحو التالي:
1.اللقيط انسان حر، واللقطة على خلاف ذلك.
2.يجب الاشهاد على اللقيط او تسليمه لولي الامر اذا لم تكن لديه المقدرة على النفقة عليه، ليفرض له الولي نفقة من بيت مال المسلمين اذا لم يكن له مال.
واما اللقطة، فلا بد من تعريف وعائها وعفاصها، ووكائها، وجنسها، وعددها، ووزنها، وحفظها في حرز مثله ([37]).
3.يكفي الاشهاد على اللقيط مرة واحدة، اما اللقطة، فالظاهر من اقوال الفقهاء ان تعريفها يكون حسب قيمتها، يوماً او اسبوعاً او عاماً ويجب ان يكون نهاراً وفي مجامع الناس ([38]).
4.اللقيط لا يملكه الملتقط، ولا غيره مهما طالت جهالة نسبه ومكثه عند الملتقط، اما اللقطة فقد يمتلها ملتقطها، اذ لم يحضر صاحبها ولو بعد حين.
5.يطرح اللقيط غالباً عمداً، اما اللقطة فلا تطرح عنداً، اذ ان المال لا يطرحه احد عمداً، الا في حالات نادرة، كالحوف من حاكم ظالم، او الخوف من اللصوص.
6.يمكن التقاط اللقيط من أي مكان، بينما اللقطة، يستثنى منها التقاط لقطة الحرم، الا للمعرف، او لموكل في حفظ الامانات.
المطلب الثالث: حكم التقاط اللقيط والاشهاد عليه
لا خلاف بين العلماء ان التقاط اللقيط فرض عين على واجده، اذا خيف عليه من الهلاك، ولم يعلم به احد سواه ([39]).
وقد استدلوا على ذلك من الكتاب والاجماع:
اما من الكتاب فبقوله تعالى:
1.(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب) ([40]).
2.(ومن احياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) ([41]).
والآيتان من سورة المائدة، تدلان على التعاون لإحياء النفس، خوفاً من ضياعها او هلاكها، واللقيط نفس محترمه من هذه الانفس، قال ابن الجوزي: في تفسيره لهذه الآية من "استنفذها من هلكه"، روي عن ابن مسعود ومجاهد، قال الحسن: " من احياها من غرق او حرق او هلاك" ([42]).
وقال ابن حزم في المحلى: ومما كتبه الله تعالى ايضاً علينا، استنقاذ كل متورط من الموت اما بيد ظالم كافر، او مؤمن معتد، او حية، او سبع، او نار، او سيل، او هدم، او حيوان، او من على صعبة نقدر على معانته منها، او من أي وجهة كان، فوعدنا على ذلك الاجر الجزيل ([43]).
والامر بالتعاون والعمل بما أمر الله ورسوله بهن ثابت في كثير من النصوص، ومستقر في اذهان المسلمين، ويقابله الانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله، ومما لا شك فيه ان التقاط النفس البريئة، وتنشئتها في مجتمع محاط بالحب والخير، لهو من اولى ابواب التعاون على البر والتقوى.
واما الاجماع: "فقد قال ابن الهمام:" هذا الحكم وهو الزام التقاطه اذا خيف هلاكه مجمع عليه" ([44]).
وذهب الفقهاء ايضا الى ان التقاط اللقيط قد يكون فرضا على الكفاية، اذا خيف عليه من الضياع وعلم به أكثر من واحد.
وأدلتهم في ذلك نفس الادلة التي وردت سابقا، غير انهم قالوا في توجيه هذه الادلة:
ان علم به عدد من الاشخاص فأخذه واحد منهم، سقط الاثم عن الاخرين، لحصول المقصود بالبعض ([45]).
ومن المفهوم انه لو لم يلتقطه احد، ممن وجده، وعلم به، اثم الجميع.
وحمل الجمهور الادلة على الفرض الكفائي في هذه الحالة، سواء خيف عليه من الهلاك ام لا، لتعلقه بالنفس الآدمية المحترمة.
وقصر الحنفية الادلة على الفرض الكفائي في حالة اذا خيف عليه الهلاك فحسب.
قال ابن الهمام في شرح فتح القدير: " وقول الشافعي وباقي الائمة الثلاثة فرض كفاية، الا اذا خاف هلاكه ففرض عين، يحتاج الى دليل الوجوب الذي ذكرناه، لا الجوب باصطلاحنا، لان هذا الحكم هو الزام التقاطه اذا خيف هلاكه مجمع عليه" ([46]).
يرى الحنفية، خلافاً للجمهور ان الفرض الكفائي يتعلق في اللقيط في حالة خيف عليه من ضياع او هلاك، وان لم يكن هنالك خوف، فالتقاطه مندوب ([47]).
وقد استدلوا على ما ذهبوا اليه بما يلي:
1.ان التقاط اللقيط، فيه معنى لإحياء نفس مسلمة من التهلكة واحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه، قال تعالى: (ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعاً) ([48])، ولهذا كان رفعه افضل من تركه، لما في ذلك ايضا من الترحم على الصغير وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا) ([49]).
2.اعتبر الحنفية التقاط اللقيط، من افضل الاعمال بعد الايمان بالله، التعظيم لامر الله والشفقة على خلقه ([50]).
3.لما روي ان رجلاً اتى علياً رضى الله عنه، بلقيط، فقال: هو حر، ولان اكون وليت أمره مثل الذي وليت انت، كان أحب اليّ من كذا وكذا، وعد جملة من اعمال الخير.
فاستحب علي ان يكون هو الملتقط، ليحظى بهذا الاجر العظيم ([51]).
ولمناقشة هذه الادلة- من وجهة نظري- اقول ما يلي:
اولا: الاستدلال بقولهم: (التقاط اللقيط، فيه معنى لإحياء نفس مسلمة من التهلكة، واحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه)، هذا لا يستقيم مع الندب، وانما يستقيم للوجوب، لان المندوب: هو المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقاً ([52])، وتارك اللقيط حتى يهلك تارك للواجب فيستحق الاثم والزجر.
ثانيا: ان احياء النفس البشرية المحترمة من الضرورات الخمس، وذلك يعني انه يجب اخذها، وغاية ما في ذلك ان يكون أخذها فرض عين ان لم يعلم به غيره، فاذا علم به غيره يكون فرض كفاية، أي اذا قام بع البعض سقط الاثم عن الاخرين، واذا تركوه اثموا جميعاً، وكأنهم افسدوا حياته وقتلوه، قال تعالى: (انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض كأنما قتل الناس جميعاً) ([53]).
ثالثا: واما الحديث (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)، فهو عام، ولا يدل على ما نحن بصدده، اذ يفهم من رحمه الصغير، هو الاحسان اليه وفعل ما ينفعه ويصلح أمره.
اما انقاذ حياته من الهلاك فهذا واجب، سواء كان لقيطاً او غيره، صغيراً او كبيراً.
وعلى فرض التسليم لهم بما أرادوا، فان قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ليس منا" يعني ان من ترك الطفل حتى يهلك فهو ليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم ان النبي لا يبرأ من احد بسبب تركه للمندوب.
رابعاً: ان غبطة على للرجل الذي جاء بلقيط والثناء عليه، لا يفهم منه مجرد الاستحباب كما هو في المصطلح، بل يفهم من قول علي: غبطة الرجل، للأجر الذي سيلقاه نتيجة انقاذ نفس كريمة من الهلاك، لما قررنا ان حفظها على هذا النحو واجب شرعاً، وان ذلك من ضروريات الدين.
الترجيح: بالنظر الى الادلة السابقة، ومناقشة ادلة الحنفية، فاني ارجح ما ذهب اليه الجمهور، وهو ان التقاط اللقيط، فرض عين، ان لم يعلم به احد غيره، والا فهو فرض كفاية، اذا علم به أكثر من واحد، ولا يكون مندوباً في حال من الاحوال، لما في ذلك من احياء نفس كرمها الله.
المطلب الرابع: الاشهاد على التقاط اللقيط:
الاشهاد في اللغة:
الشهادة: هي الخبر القاطع، مأخوذ من شهدت الشيء أي اطلعت على الشيء وعاينته، فانا شاهد، والجمع شهود وأشهاد ([54]).
الاشهاد عند الفقهاء:
وعند الفقهاء الشهادة هي: اخبار بحق للغير على الغير بلفظ اشهد.
او: اخبار صادق بلفظ الشهادة لاصبات حق لغيره على غيره، في مجلس القضاء ولو بلا دعوى([55])، وقد وضع الفقهاء شروطاً للشهادة من حيث التحمل والاداء.
حكم الاشهاد على التقاط اللقيط:
تقدم الكلام عن مشروعية التقاط اللقيط وذكر ان التقاطه اما يكون فرض عين او فرض كفاية، او مندوباً، عند من يرى ذلك من الفقهاء.
ولم يختلف الفقهاء رحمهم الله في ان من يلتقط لقيطاً يشهد عليه، ولكن هل الاشهاد على سبيل الاستحباب او الوجوب؟ للعلماء في ذلك رأيان:
الاول: رأي جمهور العلماء، ان الاشهاد على التقاط اللقيط مستحب وهو رأي الحنفية والمالكية والحنبلة واحد قولي الشافعي ([56]).
الثاني: ان الاشهاد على التقاطه واجب، وهو القول الثاني للشافعية ([57]).
الادلة:
ادلة الفريق الاول، وهو ان الاشهاد على التقاط اللقيط مستحب:
وانما استدلوا على ذلك بالمعقول، وهو ان استحباب الاشهاد تخوفاً من ادعاء الوالدية او الاسترقاق مع طول الزمان ([58]).
اما الفريق الثاني: وهو الشافعية وقولهم، بوجوب الاشهاد على التقاط اللقيط، فهو ايضا من العقول، وقد وجهوا الادلة على النحو التالي ([59]):
1.وجوب الشهادة منعاً للملتقط من استرقاق اللقيط.
2.الوجوب حفظاً على حرية اللقيط، ونسبه، قياسا على الشهادة في النكاح.
3.يشيع امر اللقطة بالتعريف، ولا تعريف في اللقيط، فوجب الاشهاد.
بيان القول الراجح حسب ما أرى من قوة الدليل:
بالنظر الى اقوال العلماء، وسير الامر الواقع، فاني ارجح قول الامام الشافعي-رحمه الله- لما يلي:
اولا: وجاهة التعليل وقوته.
ثانيا: الاصل في آدم الحرية، ولا مجال لإثبات هذه الحرية، وضمان عدم الاسترقاق الا بالشهادة.
ثالثا: معلوم ان النفس البشرية، جبلت على حب التملك، فلا يؤمن مع طول الزمن، عدم ادعاء الوالدية او الاسترقاق، الا بوجود الشهود.
رابعا: الوضع الذي آلت اليه المجتمعات من انتشار الفسق وضياع الامانة يحتم الاشهاد.
خامسا: التوثيقات الرسمية، والتسجيلات المهنية التي اصبحت اعتماد المؤسسات المدنية، والاجتماعية، وغيرها، فلا قيمة لأي امر مهما كان مهما دون هذه التوثيقات، ومنها الاشهاد، وبخاصة لما في الامر من حفظ لحقوق اللقيط المستقبلية، وعدم ضياعها كهوية الشخصية، ودينية، ونسبه، وقيمته، ولا يكون ذلك الا بتوثيق عن طريق الاشهاد.
سادسا: حتى هؤلاء الذي يقولون بالاستحباب، يقولون، يجب على الملتقط الاشهاد، اذا غلب على ظنه، انه مع طول الزمن قد يدعى الوالدية او الاسترقاق، فالأمر بالاستحباب ليس على اطلاقه، مما يضعف هذا القول.
الخــاتمــة
وفي الختام أحمد الله تعالى إذ يسر وأعان على إتمام هذا البحث الموجز ، وستتناول هذه الخاتمة أبرز وأهم النتائج التي توصل إليها البحث :
أولاً : اليتيم الحكمي هو طفل مجهول الهوية نبذه أهله أو ضاع منهم .
ثانياً : التقاط اللقيط فرض عين إن خشي عليه الهلاك ولم يوجد أحد غير الملتقط ، فإن وجد غيره ولم يخش عليه الهلاك فالتقاطه فرض كفاية .
ثالثاً : يجب الإشهاد على الإلتقاط وعلى ما مع اللقيط من مال مراعاة لمصلحة اللقيط وحفظا لحريته ونسبه وماله من الضياع .
رابعاً : للملتقط شروط منها : الإسلام ـ إن لم يحكم بكفر اللقيط ولا إسلامه ـ والتكليف والعدالة والحرية ، ويصح التقاط العبد والمحجور عليه للسفه ، ولا يشترط في الملتقط الذكورة ولا الغنى .
خامساً : إذا تزاحم الملتقطين ، فإن كان ذلك قبل الالتقاط فالأمر فيه للحاكم ، وإن كان بعد الأخذ ولم يكن واحد منهما أهلا للالتقاط نزع منهما أوممن ليس بأهل ، وإن تساويا يقر اللقيط بيد من ترجحت يده بأسبقية أو بغنى أو حرية ، وإلا أقرع بينهما عند عدم الترجيح .
سادساً : إن وجد طفل لقيط ميتا وجب غسله وتكفينه ودفنه في مقابر المسلمين بلا خلاف ، وإن وجد حيا حكم بإسلامه مطلقا سواء أكان الواجد مسلما أم ذميا وسواء وجد في مسجد أو كنيسة أو بيعة .
سابعاً : اتفق العلماء على أن اللقيط حر ولو التقطه عبد ، ولا يقبل إقراره على نفسه بالرق .
[1] - المغنى والشرح الكبير لابن قدامة ج 6 ص 346.
[2]- عفاصها- وعاؤها وما تحمل فيه من نفقه، انظر: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيرازي الشافعي، 817 ه، القاموس المحيط، 2/473، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3]- وكاؤها- الحيط الذي يربط فيه، انظر: ابن منظور، لسان العرب، 7111ه، 15/381، دار احياء التراث العربي، بيروت.
[4]- متفق عليه، رواه البخاري في صحيحة، انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، باب ضالة الابل، 5/ 101، برقم 2427، ورواه مسلم في صحيحه، انظر: النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب اللقطة، 8/4740، برقم 1722.
[6]- رواه البخاري في صحيحه، انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، كتاب فرض الخمس، باب: من قتل قتيلاً فله سلبه، 6/303، برقم 3142.
[7]- انظر: ابن منظور، لسان العرب، 12/312، مركز الموسوعات والكتب.
[8]- انظر شمس الدين السرخسي- المبسوط، ب 490 ه 10/209، دار الكتب العلمية –بيروت.
[9]- انظر: محمد امين بن عمر بن عابدين، 1252ه ، رد المختار على الدر المختار، 4/ 457، دار الفكر، بيروت.
[10]- انظر: ابن منظور، لسان العرب، 5/385، 9/ 502.
[11]- انظر: ابا الحسن، على بن حسن المرداوي المقدسي، 885 ه، الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الامام المبجل احمد بن حنبل، 10/ 418، دار احياء التراث العربي، بيروت، تحقيق محمد حامد الفقي.
[12]- انظر: محمد بن بدر الدين البلباني، 1083ه، اخصر المختصرات في الفقه على المذهب الحنبلي 1/ 102، تحقيق: محمد بن ناصر، دار البشائر، بيروت.
[14]- انظر: شمس الدين محمد الخطيب الشربيني، مغنى المحتاج الى معرفة معاني الفاظ المنهاج، 3/ 598، دار الكتب العلمية، بيروت.
[15]- الرق ظاهرة تاريخية واستثنائية، تعامل معها الاسلام على اساس الواقع، وقد عمل الاسلام على اختفاء هذه الظاهرة، ولا وجود لها في عصرنا الحالي.
[16]- انظر: الامام محمد بن عبد الله بن علي الخرشي المالكي 1101ه ، دار الكتب العلمية- بيروت.
[17]- انظر: الدسوقي: حاشية الدسوقي، 5/534.
[18]- انظر: الدسوقي: حاشية الدسوقي، 5/534.
[19]- انظر: الشربيني، مغنى المحتاج، 3/ 598.
[20]- انظر: الشربيني، مغنى المحتاج، 3/598.
[21]- انظر: ابا زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي، 676ه ، روضة الطالبين، 4/ 484، دار الكتب العلمية، بيروت.
[22]- انظر: العلامة جلال الدين محمد بن احمد المحلي، 864ه ، كنز الراغبين على شرح منهاج الطالبين، للشيخ محمد محيي الدين النووي، دار الكتب العلمية، بيروت، 3/188.
[23]- انظر: المرداوي، الانصاف، 10/419.
[24]- انظر: موافق الدين عبد الله بن احمد بن قدامه، 620ه، المغنى 6/403، دار الفكر، بيروت.
[25]- انظر: ابا وليد سليمان بن خلف بن سعب بن ايوب بن وارث الباجي الاندلسي، ت 474ه، المنتقى شرح موطأ مالك، الطبعة الثانية، دار الكتاب الاسلامي- القاهرة، 6/ 2، باب القضاء في المنبوذ.
[26]- انظر: ابن منظور، لسان العرب، 12/312، مادة لقط.
[27]- انظر: اكمل الدين محمد بن محمود بن احمد البابرتي، 786ه، العناية شرح الهداية، 6/ 111، مطبوع مع شرح فتح القدير.
[28]- انظر: ابن نجيم، البحر الرايق، 5/ 251.
[29]- انظر: الحوشي، 7/ 441.
[30]- عن ابي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله: ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة، رجل اعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر اجيرا فاستوفى منه ولم يعطه اجره) رواه بخاري في صحيحة.
[31]- انظر: الشربيني، مغنى المحتاج، 3/ 576، باب اللقطة.
[32]- انظر: ابن قدامه، المغنى 6/ 346.
[33]- الشسع، السير يمسك النعل بأصابع القدم، انظر ابن منظور، لسان العربن 7/110.
[34]- انظر: سنن ابي داود، 2/ 66، كتاب اللقطة، قال الالباني: ضعيف، انظر: الالباني، صحيح وضعيف سنن ابي داود، 4/217، رقم 1717.
[35]- رواه البخاري في صحيحة، انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 5/ 108، كتاب اللقطة، باب وجد تمره في الطريق.
[36]- رواه البخاري في صحيحة انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 10/634، كتاب الادب، باب ما يجوز من الغضب، رقم 6112.
[37]- انظر: تقي الدين ابا بكر محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي، كفاية الاخيار في حل غاية الاختصار، 2/4، دار الفكر.
[38]- انظر: ابن قدامه، المغنى، 6/ 348.
[39]- انظر: ابن نجيم، البحر الرائق، 5/241، وابن الهمام الحنفي، شرح فتح القدير، 6/103.
[42]- انظر: ابا الفرج جمال الذين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، 597ه، زاد المسير في علم التفسير 2/ 203، دار الكتب العلمية، بيروت.
[43]- انظر: ابا محمد اعلى بن احمد بن سعيد بن حزم الاندلسي، الايصال في المحلى بالأثار، 11/ 219، دار الكتب العلمية.
[44]- انظر: ابن الهمام الحنفي، شرح فتح القدير، 6/ 103.
[45]- انظر: ابن نجيم، البحر الرايق، 5/ 241، وابن قدامه، المغنى 6/ 403.
[46]- ابن الهمام، شرح فتح القدير، 6/ 103، وابن نجيم، البحر الرايق، 5/ 241.
[47]- علاء الدين ابو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، 587ه ،بدائع الصنائع في ترتيب الشرائح، تحقيق وتعليق: علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت.
[49]- انظر: السرخسي، في المبسوط، 10/ 209، والكاساني، بدائع الصانع، 8: 320.
[50]- انظر: السرخسي، المبسوط، 10/ 209.
[51]- انظر: الكاساني، بدائع الصانع، 8/ 320، والسرخسي، المبسوط، 10/ 209.
[52]- انظر: الغزالي، المستصفى من علم الاصول، 1/ 130، مؤسسة الرسالة، والآمدي، الاحكام، 1/103.
[54]- انظر: ابن منظر، لسان العرب، 7/222.
[55]- انظر: ابن الهمام الحنفي، شرح فتح القدير، 7/ 339.
[56]- انظر: الشرخسي، المبسوط، 10/ 210.
[57]- انظر: الشربيني، مغنى المحتاج، 3/ 597.
[58]- انظر: الدسوقي، على الشرح الكبير، 5/ 537.
[59]- انظر: الشربيني، مغنى المحتاج، 3/ 598.