..
الخطيئة
و هما يقفان عند شط النهر، ينظران إلى الشمس و هي تتوارى خلف الجبل شيئا فشيئا، تأمل عينيها و قد انعكست عليهما حمرة الشفق. خفق قلبها كأنما يبغي الخروج من صدرها محلقا في عنان السماء حين أومأ لها بوقوعه في الحب. غالبتها العبرات فحاولت إخفاء مدى ارتباكها، بفارغ الصبر انتظرت حليمة هذه اللحظة، فلسنوات خلت و هي تكتم شعورها اتجاه ابن عمها الذي شب بين أحضان المدينة. متصنعة هدوء زائفا سألته عن اسم حبيبته و كلها شوق لسماعه، نظر إلى عينيها السوداوين و قد زينهما الكحل " حليمة أنا أحبك ". تمنت لو أن الزمن توقف عند هذه اللحظة فيكتب لها الخلود، ألجمها الفرح فعجز لسانها عن الكلام، اكتفت بالتحديق في عينيه، أيعقل هذا ؟ غامرتها الشكوك أهي في حلم أم حقيقة. وسيم الذي درس في أرقى جامعات أوربا يترك خلفه كل الشقراوات الفاتنات، و يعشق حليمة الفتاة الريفية التي توقفت عن الدراسة مبكرا.
يعود وسيم بعد نهاية عطلته القصيرة إلى فرنسا، تاركا حليمة على وعد بلقاء قريب في الصيف المقبل. لم يكن يعلم سرهما غير النهر و شجرة صفصاف عجوز، غادر تاركا إياها تغزل أيام وحدتها بمغزل الصبر المشوب بالحذر. حل صيف جديد فكانت تجلس قرب نافذة غرفتها بالطابق العلوي، ترقب الطريق العام لعلها ترى سيارته قادمة، مرت الساعات و الأيام بطيئة، طال انتظارها لكنه لم يعد.
ظلت على حالها كل يوم قابعة قبالة النافذة، حتى إذا حل الغروب، تأوي إلى النهر حيث شجرة الصفصاف العجوز لا تملك شيئا لتواسيها به.
حل صيف آخر و انقضى كسابقه، ثم آخر و آخر. جف النهر كما جف دمعها، لم يعد لها من سبيل غير الرحيل هروبا من كثرة الهمز و اللمز، فما عادت مبرراتها لرفض الخطاب الكثر الذين تقدموا لها كافية لإخراس الألسن.
في صباح خريفي عصفت فيه الرياح ، اختفت حليمة تاركة أمها العجوز دون وداع، و دون أن تعد لها قهوتها الصباحية. غادرت قريتها إلى المجهول تاركة وراءها مجتمعا لا يغفر أبدا لمن أسلمت نفسها، غادرت لتدفع وحدها ثمن خطيئة ارتكبها اثنان.