على قيد الانتظار
انتظرتها هذا المساء أيضا..وقفت عند ناصية الشارع القريب من البيت حتى غابت الشمس لكنها لم تعد..سرت إلى الحديقة كعادتي..اجلس في نفس المكان كأن بيني و بينه علاقة ما ..هكذا أنا ارتبط بالأشخاص و الأماكن ..بالكتب ..حتى صناديق الهدايا احتفظ بها ..تذاكر النقل لمدن أحببتها..كل شيء مهم عندي ..على نفس الكرسي القي جسدي المتهالك الهرم..بدأت صراحة أتردد حين يسألني الآخرون "كم عمرك" ...أشيح وجهي أحيانا و أغير الموضوع.. و أحيانا ابتسم و أبقى دون ملامح..قرأت مؤخرا عبارة وصفتني بدقة فارتعبت..لهثت إلى فراشي و تدثرت و ضممتني إلي ..ضممتني حتى اجمع أشلائي المبعثرة..تقول العبارة "ما يخيفني أنها أصبحت صامتة، صامتة بطريقة مرعبة، لا تبكي، لا تتحدث عما بداخلها، وتبتسم طوال الوقت، ومثل هذه العلامات تعني أنها محطمة، محطمة تماما" ...
انتظر و انتظر و انتظر..يتسرب البرد إلى مفاصلي ..كم أصبحت هزيلة ..أتفحصني بعيون تشبه عيون جارتنا لكنني لا املك لسانها فابتسم و اصمت .. أنا أنسى كثيرا ..أنسى حتى أن أتناول طعامي..لكن رغم وزني الخفيف خطواتي دائما بطيئة ..أشعر أنني احمل هما يفوقني عمرا و وزنا ..أن هناك أيد غير مرئية تمسكني من كتفي و تضغط علي دافعة كلي إلى الأسفل ..افتح حقيبتي و أتناول شالا منها احتفظ به لأمسيات كهانه..أضم ركبتي إلي كطفلة و اشخص بنظري إلى النجوم التي بدأت تظهر..أول نجمة ..أحببتها دوما ..منذ طفولتي..طفولتي ..لا ادر إن كان فعلا يصح وصفي بطفلة ..لا اذكر أنني لعبت كالأطفال كثيرا ..كان لدي طقوسي الخاصة ..طريقتي المتفردة في عيش تلك السنوات التي تسبق الشباب بفترة .."الشباب" في بلادي تعني أيضا "الجمال" و كلمة "شعال راكي شابة اليوم" كفيلة برسم الابتسامات على وجوه الفتيات..فلم لا تغير هاته الكلمة شيئا لدي ..صرت حيادية حد الملل..لا جاذبة و لا نافرة ..لا افرح للأشياء التي كانت كفيلة بتحويلي إلى كتلة سعادة ..لا احزن إن بدر من احدهم ظلم لي ..لا اشتعل غضبا إن مازحني احد الأصدقاء مزاحا ثقيلا ..صرت باردة جدا..
أحدق إلى السماء كأنني أراها لأول مرة ..تبدو أنوار وسط المدينة من بعيد راقصة ..أكاد اجزم أن عدد الراقصين يضاهي عدد الأضواء..أنها نهاية الأسبوع ..و هذا الأمر طبيعي هنا..الكل يحتفل بعد خمسة أيام عمل ..أراقب السماء تارة و الأضواء تارة أخرى ..اشعر أن أحسن قرار اتخذته كان كراء هذا البيت ..القريب من الحديقة و البعيد عن وسط المدينة..يدق هاتفي في وقت لا مزاج لي للحديث إلى أحد..من شهور لا مزاج لي للحديث ..أؤجل كل الأحاديث المعلقة بقولي "من بعد إن شاء الله" و "من بعد" في عرفي لم تأت بعد..
أتجاهل رنة الهاتف ..أغمض عيني و أنا أحاول تخزين صورة السماء بذاكرتي ..قد افتحهما يوما و لا أجدها..كل شيء جميل أحبه يختفي ..لن أتعجب إن اختفت السماء أيضا ..لكنني لا أرى السماء بل أرى يدا تمتد إلي..هل ستخنقني يا ترى هاته اليد..من أين أتت لا شيء خلفها سوى السراب..تمتد نحوي و تتحسس وجهي برقة..تخرج خصلات شعري من تحت الخمار و تسويها بعناية..اعرفها هاته اليد..اعرف خطوطها ..تجاعيدها ..ملمسها الخشن لفرط ما تعبت في حياتها ..تنساب دموعي حارة كبركان و اشعر بأنني سأختنق ..أقف بسرعة أمد يدي فلا أجد سوى الفراغ ..أنا و الفراغ و السماء ...أتسمر للحظات
يدق هاتفي مرات و مرات حتى أمله فأرد "نعم ..في الحديقة كعادتي استمتع بآخر أيام الصيف..أكيد حضرت عشائي أتناوله فور دخولي للبيت ..الأمور بخير...كان على وضعية الصامت آسفة ..لا تقلق علي لست طفلة واااع ..انتبه أنت على نفسك" انهي الاتصال و صوت أخي القلق مازال يرن في أذني ..كنت كاذبة جدا..لكنني لا املك خيار الصدق ..موجعة حقيقة أنني أذبل شيئا فشيئا ..حقيقة أنني في كل يوم أبحث عني في بيتي ..في ملابسي ..في حقائب يدي ..في كتبي و دفاتري ..في رائحة الياسمين التي أحبها ..في عيون أصدقائي..في شاطئ البحر الذي أحببته دوما ..ابحث عني في المواقع التي كانت تجذبني ..في المغامرات التي كانت تستهويني لكنني في كل مرة أعود بدوني ..و كمحاولة يائسة انتظرني عند نهاية الشارع كل مساء ظنا مني أنني ضللت الطريق يوما و ما رجعت..
ها أنا هنا انتظرني و فقط
أمارس الحياة بابتسامة و روح محطمة
أمارسها بحيادية و كأنها ليست حياتي
فهل تراني سأعود..