نهاية الصيف في أرسطو - بقلمي .
آخر
الصفحة
الربيع و الخريف

  • المشاركات: 11357
    نقاط التميز: 4961
مشرف سابق
كاتب قصصي في منتدى القصص القصيرة
الربيع و الخريف

مشرف سابق
كاتب قصصي في منتدى القصص القصيرة
المشاركات: 11357
نقاط التميز: 4961
معدل المشاركات يوميا: 1.6
الأيام منذ الإنضمام: 7112
  • 13:07 - 2017/07/30

نهاية الصيفِ في أرسطو

 

الجبلُ القديم مزدحمٌ بالمارّة الذين تراوحوا بين المشاة على أقدامهم و الآخرين الذين يركبون سياراتهم. عاملُ النظافة الوحيد في مفرق المسجدِ و الحديقة ، يضعُ هاتفه المحمول على وضع مكبر الصوت و يسمع أم كلثوم متلقياً نسائم المساء الناعمة بعد نهارٍ حار قائظ. بعض القطط القليلة تنعفُ داخل صندوق القمامة الكبير و تموء متململة. أقتربُ من الياسمينة النامية على طرف حائطٍ يقع مباشرة على العطفة المؤدية إلى الدوار. تزوغُ عيني دون قصدٍ إلى الجرائد المرففة على المشجب الحديدي الصغير أمام البقالة. أسألُ في نفسي ، كيف للورق أن يحتملُ كل هذا الدم ؟ ، لا أخبارٌ عن الحياة ما وراء المحيط ، عن الدب القطبي في آلاسكا ، عن آخر المغامرين الواصلين إلى قمة كلمنجارو.

أفتحُ الثلاجة و أستلُّ علبة ماء . أبادرُ البائعة بينما تنشغلُ بسيجارتها ، لا يوجد ماء بارد ؟ ..

- إذا ما عجبك ، لا تشتري .. بعد محل الخضار هناك ، اطلع يا رجل ، يوجد بقالة ثانية .

- أنا عطشان ، السرفيس نزّلني أول الطلعة و مشيت المسافة على رجليّ.

حاسبتُ على الماء و خرجتُ لا ألوي على شيء سوى أن أفتح عينيّ على ملئهما و أقتنص النظرات هنا و هناك.

مشتاق للجبل ، منذ زمن طويل لم أزره ، هنا يجتمع المثقفون الحزانى و تولد أول قصص الحب. مضيتُ ببطءٍ شديد أستشفُ التغييرات الحاصلة على المحلات و روّاد الجبل. داهمني التعب فجأة ً، فقررتُ أن أجلس قليلاً بينما أستعيدُ عافيتي. و كالعادة أخرجتُ هاتفي المحمول من جيبي و بدأتْ كفي تسحبُ الصفحات الكثيرة على الشاشة مسرعةً إلى الأسفل دون اهتمام و لا غاية. و كي لا أفتح خانة الرسائل ، ضغطتُ على أيقونة لعبة تافهة و حاولتُ إشغال نفسي و استعادة تركيزي. و بينما أنا على هذا الحال ، توقفتْ سيارة بيضاء قريباً مني حذاء الرصيف. ذات السيارة ، همستُ بداخلي مغمغماً. اندفع الباب بقوة و أطل وجه رجل عجوز بدشداشة بيضاء اتجه نحو المسجد. انتبهتُ لتوي أن ظلال الغروب تخافتت على أطراف السماء القصية و هي تدريجياً تدنو مازجة ًالزرقة الشفافة بلون الكُحل الأسود.

قد خاب ظنك إذن ؟ ، هل تعتقد أنكَ ستجدها بتلك السهولة ، تسيرُ في الشارع و ترتطم بشخصٍ ما و تحاول الإعتذار فتطالعُكَ الحدقتان الواسعتان و الفم الأحمر الواسع و عندذاك ، في تلك الشرارة الفانية من سريالية الوقت، هل ستقدر أن تكرّ الماضي دفعة واحدة ، بغرامه و عتبه و أشجانه و مرارته ؟، و ما أدراكَ أنها تعرفُ تماماً أين تجِدكُ و لا تعطيكَ فرصة المصادفة الساذجة التي تبحثُ عنها ؟ ، إنها امرأة ذكية جداً و تعلمُ أساليبك ، لا تلعب معها .. ستندم.

عاودتُ المشي ، نهضتُ عن الكرسي و قد التصق بردنِ بنطالي قطعة اللُبان الممضوغة و التي خفيتْ عني دون انتباه. و قبل مجاز المقاهي الذي تفوحُ منه رائحة الأركيلة القوية ، صادفتني شاحنة خضار مكدسة إلى آخرها، و أسفل منها استندَ شابان قويّان البنية يعملان على تفريغها و قد سال العرقُ الغزير على جبين واحد منها بينما فاحت رائحة الآخر بشكل مقزز. وصلتُ الدوار الهادىء ، لا صبية اليوم يعكرون صفو المتنزهين بكرتهم المطاطية المزعجة. الشيء الوحيد اللافت للنظر ، وجود يافطة كبيرة على جانب المبنى المقابل يطلُّ منها وجه رجل مبتسم يغري بشراء نوع جديد من الهواتف النقالة ذات خاصية التصوير ثلاثي الأبعاد. أردتُ أن أعبر و لكن قريباً جداً مرّتْ سيارة بك أب مستعجلة خنقتني بدخان عادمها و استطعتُ أن التقط بعيني عبارة مكتوبة على القفص المثبّت فوق صندوقها الخلفي ، " ما رح أسامحك لو تعود و لو عملتْ لي من نجوم السما عقود " . عادتي أن لا ألقي بالاً لمثل هذه العبارات التي تفتقد إلى أي ذوق و تأتي على صيغة الخلاصة النهائية غير القابلة للشك أو التفنيد. لكني عجبتُ في نفسي ، هل تبلغُ القسوة و اللاتسامح إلى هذا الحد في نفوس البشر ؟ ، و قلّبتُ الأمر في عقلي قليلاً ريثما قطعتُ إلى الجهة المقابلة ، كان الجو يعتدل أكثر فأكثر و لذّ لي أن أغرق في أفكاري . مجرد أن يأتي إنسان و يقول لكَ " أنا آسف ، أنا أعتذر إليك " ، أليس يُعد ذلك و لو خطوة هشّة نحو شيء ٍ ما ؟ ، لا أقولُ أن الإعتذار مُقابل بطبيعة الحال فبعض الأمور لا يُمكن التسامح بها بتاتاً ، و لكن القضية أكبر من هذا المنظور ، الأمر لم يعد يتعلق بك شخصياً يا منْ يُفترض بك أن تسامح و إنما بسؤال الإنسانية في نفسك. كيف ؟ افترضْ أنك تعرضتَ لسؤال " متى تسامح و متى لا تسامح ؟" هل تعتقد أنك ستجيب دفعة واحدة و بكلمة واحدة ؟ ، ألن يرينَ عليك الصمتُ لوهلة و تحدّق في الفراغ و ربما احمرّتْ وجنتاك أيضاً.

منذ فترة هاتفني صديق، أعجبُ لنفسي أحياناً كيف أصيرُ فيلسوفاً لا يشق له غبار ، قلتُ له يا صديقي : العمرُ قصير و لا يحتاج منا المزيد من الفقد و الإنقطاع ، قدر ما تستطيع تجاوز .. ارتفعْ عمّا في نفسك من غضب. اعطِ مبرراً للآخرين ، هم بشر مثلك لا تتوقع منهم الإستثنائي و الرفيع مهما نالوا من نفسك المنزلة الوارفة. و بعد أن أغلقتُ الهاتف عادني الشعور بالمرارة الكسيحة النزقة ، و تذكرتُ ما قرأتهُ قبل فترة وجيزة على لسان الأديب البرازيلي

باولو كويليو و مفادهُ : " ما كنتُ قد تعلمتهُ من الحياة أن لا يهم كم يكون شخصٌ ما جيداً ففي بعض الأحيان من الممكن أن يجرحك ، و بسبب هذا علينا أن نسامح. تحتاجُ منا سنون طويلة لبناء الثقة و ثوان فقط لتدميرها ! . لسنا بحاجة لتغيير الأصدقاء إذا تفهمنا أن الأصدقاء يتغيرون .. " .

 

و مسحتُ بيدي على جبهتي كمنْ يعزيّ نفسه و قمتُ أمشي بخطى ثقيلة.

الدرج الملّون سيقودني مباشرة إلى المقهى. من على أعتابه المتكسرة يمكنكَ أن تتأملَ الجانب القديم من العاصمة.

هدوءٌ كامنٌ في الأفق لا يشوبه غير تلويحة سربٍ من العصافير أو دخان أسود لمطعم تنفثهُ مدخنته الطويلة. هبطتُ الدرجات بحذرٍ شديد و عند الدرجة الأخيرة أزعجتني المفاجأة ، لقد كان صاحب السرفيس نفسه الذي ركبته ، يقف أمام كافتيريا و يمدّ يده بالفكّة من شباك السيارة بكل خفة و يناولها للصبي العامل. انتحيتُ إزاء الرصيف و شِحتُ بنظراتي بعيداً عنه لكن على الفور زمّر لي من سيارته و نادى بشكل استفزازي " يا شب يا شب ! " ..

- نعم ؟ .

- بالله عليك زعلتْ ؟.. كان هناك أزمة ركّاب في المجمّع و قلت لنفسي يا ولد استعجل .. رزقة ! ، أنت تعرف ..

- هل يبدو عليّ أنني غاضب ؟ ، لا تزعج نفسك .. حصل خير.

- تفضل أوصّلك إلى نهاية الشارع.

- شكراً جزيلاً. و أضفتُ في سريّ ، اهتم بخطّ سيرك في البداية ثم اكرم على الناس..

و أكملتُ طريقي إلى أن وقفتُ بباب المقهى الذي لطالما ترددتُ عليه قبل سفري. تُدهشكَ التفاصيل حينما تغيب عن مكان ما لفترة ثم ترجع إليه. تتحسس الدقائق الصغيرة بعناية و تود لو تسأل .. لماذا تحركتْ هذه الطاولة إلى غير موضعها ؟ و ها هم اشتروا ثلاجة جديدة ! ، و قد استبدلوا زجاج النافذة المشقوق بواحد جديد . و يبدو أنهم أصبحوا يزهدوا بمعسّل الأرجيلة فيشترون الرخيص جداً .. إلى آخره من الملاحظات ..

دفعتُ الباب فدوّى في الفضاء صوت جرس. و لحظة وجدني أقفُ أمامه ، جذبني من ياقة القميص و عانقني بدهشة غامرة شديدة ..

- متى جئت يا رجل ؟ ، اشتقنا لك كثيراً ، تسافر و لا تقول لي .. يا ظالم !

- و أنا مشتاق لك يا راجي ، كل شيء حدث بسرعة عجيبة ..

- دعنا من كلام الروايات هذا ، لو كنت تريد أن تخبرني لفعلت لكن الله أعلم منْ كان يشغل بالك في تلك اللحظة !

- بصراحة ..

و لم يمهلني كعادته أن أكمل جملتي إذْ اندفع يحكي له أخباره و مشاكله العائلية و ديونه و أحدث الأمراض التي أصيبَ بها. ألقيتُ بنفسي على كرسي و أصغيتُ لحديثه الذي لا ينتهي ذو الشجون المتفرعة المتشابكة. و ما أن فرغتُ من شرب كأس الشاي الثانية .. صمتْ . سيّطرَ عليّ صداع عنيف فطلبتُ منه حبة دواء مسكّن ، و من خلف الحاجز الخشبي الكبير الذي يفصل بين المطبخ و صالة المقهى ، هدرَ صوتهُ منتشياً متخابثاً بخاطرٍ جديد..

- جاءتْ هنا قبل فترة قصيرة ، ربما من أسبوعين زمن .. كان برفقتها شاب حليوة و على الموضة.

و تركتهُ يتابع كلامه دون أن ينبتْ بشفتي أي حرف. حاول إثارتي لكن ربما أدركَ أنه فشل حينما لم يلقَ مني أي ردة فعل بإستثناء السكون.

- لأول مرة أشاهدها تضع هذه الكمية من المكياج على وجهها . لم تنكر أن لها معرفة مسبقة بالمقهى و عرّفت بي بكل لطف أمام الشاب ..

- المهم دفعوا لك بخشيش ؟

- هذا الذي يهمك ؟ نعم يا سيدي دفعوا ..

قالها بغضب ظاهر و تجاوزني إلى الزبون الذي دخلَ دون أن نشعر به. و غِبتُ في خيالي و قد كتّفتُ ذراعي على وجهي و نظرتُ في العتمة ..

الزمن .. الأيام الأولى من شهر شباط قبل سنتين . المكان .. ذات المقهى ، الطابق الثاني . الحاضرون .. مجموعة قليلة من الأصدقاء أو الذين لهم معرفة مسبقة ببعضهم . المناسبة ، معرض فنيّ صغير أُقيم على عجلٍ و مساحتهُ الجدران الأربعة للحجرة.

 

لم يكن من المتعذر تبيانُ أنها قد انشقّت عن الجمع و بدأت تضغط بعصبية على أزرار هاتفها. ذلك الهدهد الذي لا يموتُ في خدّها ، حين تسخط لأمرٍ معين ، يقفزُ و يحطّ على عشّ ٍمن إحمرار يشعّ بشفتيها النديّتين. أما عينيها ، يا للعذاب الذي يتراكم بالقلب عندما تطالعانك . تختفي تلك الطمأنينة الرائقة و يحلُّ محلها زوغٌ يدوّم و ينتظرُ لحظة الإشتعال ..

- ما بكِ ؟ . همستُ متسائلاً ..

- لا شيء ! . هناك معجبات بإبداعاتك يا فنان ، لا تطل عليهن الغيبة ..

تنهدتُ و قد زفرتُ أنفاسي الحارة و أعقبتُ ذلك متعجباً ..

- إذن لم تعجبكِ اللوحة ؟ ، لا تشاهدينَ فيها شيئاً من ملامحك ، لا ترغبين أن تبقى موجودة ؟

- لا أعرف . أنت أدرى ! ، كان يلزمك أن تهتم بها و تعتني بثناياها بدلاً من إهمالك الغريب .. لا أريد أن أضيع من وقتك يا فنان ، هيا اذهب و سنتحدث لاحقاً .

ثم حملتْ حقيبتها و غادرتْ.

و عقب انتهاء وقت العرض، اعتذرتُ إلى راجي فجمعتُ اللوحات و رميتُ بها داخل المستودع. في الغربة لم أشأ أن أرسم أي شيء له ارتباط بالإنسان لا بورتريه أو أي وضع لأجساد. فضّلتُ رسم نملاً يحملُ ثمار السنابل و يجري إلى بيته ، شجرة تخفي صحن القمر خلال أغصانها وقت الغروب ، البحر خالياً من المرتادين ، مكعبُ ثلج يذوبُ متمهلاً و يصبحُ ماءاً .

حاولتُ الإتصالَ بها فيما بعد ، و لكنها لا ترد أو لا تريد. سألتُ عنها بعض الأصدقاء المشتركين غير أنهم كانوا إما أن يرفضوا الإجابة أو يصلهم ردٌ منها ينهاهم عن المضي في النقاش معي. لا أُنكر أنه ساورتني رغبة بإعادة رسمها من جديد في لوحة أُخرى، مالذي أثار حفيظتها إزاء اللوحات الأولى ؟ ، هل لمستْ أنني بارد عديم الإحساس ؟ لا أوليها العناية الكافية التي تسمحُ لي بأن أفيضَ لها شوقاً عارماً و دفءاً خافياً ؟ مالذي نفّرها إلى هذا الحد فرحلتْ عني ..

أصابني الإكتئاب لفترة يصعُب علي الآن تحديد مدتها. تأمّلتُ ، نقّبتُ في تلابيب وجداني ، أجبتُ ثم نفيتُ ثم رضختُ فتنازعتني الشكوك. هل تذبلُ الدنيا لأجل إنسان ذهَب ؟ . نعم تذبلُ الدنيا و تتساقطُ ورقةً ورقةً بأشجار الوِحدة و الفقدْ. و هأنذا أرجعُ فيضحي الشارعُ مسافة طويلة للذكريات و صندوقاً أسود للكلمات. أحسُّ بالخفّة و اللاجدوى ، أرتطمُ ككرة المطاط و أعودُ لأسقطَ إلى الأرض في رتابة متكررة مؤذية ..

رأيتُ راجي ، مندهشاً ، يمررُ طرفَ المنشفة على وجهي. كانت ساخنة و مبللة ..

- يظهر أن غيابك القصير كشف عن مدى هشاشتك. أعرفك أقوى من هذا ، لا تقدّس الحزن يا أخي .. لماذا تظن أن الحزن ثمين ؟ ، أنت مخطىء و رأسك هذا يحتاج إلى نفض كي يطير الغبار منه .

لمع بشفتي خيال ابتسامة ، و على الفور نهضتُ من مكاني و تنكبتُ راجي الذي صار خلفي الآن ، ثم خطوتُ إلى الخارج و في نيتي أن أؤبَ إلى الشقة فأفزع إلى الألوان و الفُرَش و الصحف البيضاء .. إلى أن أنتهي مني أو أنتهي من الرسم .. إلى آخره إلى آخره ..

في الصباح ، استيقظتُ على رنين الموبايل ، سمعتُ صوت راجي على الطرف الآخر ..

- صباح الصفقات المربحة ..

- لا أريد أي صفقات . ضع ركوة القهوة على النار ، أنا في الطريق يا مزعج !

- طيب اسمعني فقط .. بعد مغادرتك يوم أمس ، جاءت سيدة أجنبية عجوز و قعدت تطلع إلى المقهى بإهتمام . و سألتْ عن اللوحة ..

- أي واحدة ؟ ، أنا منذ زمن لم أرسم .. لا أريد أن أسمع نكتة هذا الصباح.

- تلك التي رسمتها لأجل التي بالك منها ..

- لا أحد في بالي يا راجي . أعطيها للعجوز دون مقابل .. سأؤجل زيارتي إلى بعد العصر، سلامي ..

- ستدفع لك مئة دينار يا ناكر النعمة ، لا ترني وجهك إذا ظللت في هذه الحالة .

و أنّ الإتصال بخفق متناوب. ارتديتُ ثيابي و قررتُ أن أركض تحت الشمس . كان الصيف مستعراً يُطلق كلابه اللاهثة في كل زوايا. عندما رأيتها مثلما كانت جميلة أبداً ، تخفي عينيها بنظارة شمسية و فمها الذي يكبرُ كلما بلعتْ ريقها و يربو إلى أن يلتفّ كضمّة جوري. لا أعرفُ كيف بزغتْ هكذا ، انشقّتْ عنها الأرض و ظهرتْ . لا موعدٌ بيننا ، لا لقاء .

- ماذا تريدين مني ؟ .. ألم يكفي صدّك لي ؟ لقد استعذبتِ إقصائي .. و لكِ ما أردتِ.

- أيها الأحمق الصغير .. ما زلت تتصرف مثل الأطفال تماماً. تغار ، و تقول كلمتين هنا و هناك ثم تهرب ..

و تابعتْ .. ما أخبار الرسم معك ؟ .

و كنا خلال هذا الحوار القصير نسيرُ بموازاة واحدنا الآخر ، و دون أن أدرك إذْ جرى بيننا الحديث أننا معاً و دون قصد نقتربُ من سيارتها البيضاء. فتحتْ لي الباب و لعلها أعجبها ذاك التوتر الواضح عليّ ، كانت تتصرفُ بهدوءٍ جَم و ثقة تامّة. لم أرفض دعوتها و راحت تقودُ السيارة تشقّ الإزدحام بمهارتها المعهودة و في عيونها كلام لكنها فضّلتْ عليه الصمت القاسي.

- هل تناولتَ إفطارك ؟ .

و تقلصّتْ مساحة العينين و غرقتا على ضفاف الكُحل. كنتُ فيما مضى ، و في هذه اللحظة بالذات ، أهذي.. أندفعُ بالجُمل التي لا أعرفُ مصدرها ، أرتقي إلى مرحلة المجنون التي تحبه و التي تطربُ له. و حينما لم تجد مني هذه الحماسة هذه المرة ، انعكسَ على ملامحها . ما أصعبَ أن تُحبَط إمرأة ، تمضغُ مرارتها تحت لسانها و تستنفرُ تلك الأفكار كي تبادرَ و تعتذرَ لها مُرغماً و مالكاً لزمامِ أمرك في ذات الوقت.

- لم أفطِر ، لدي موعد ، الحقيقة أنه لا رغبة لي بالطعام.

- موعد ؟ أما زلتَ عاطفياً ؟

- لا شأن لكِ ، لا تسألي كثيراً .. ثم أين نحن ذاهبان ؟ ، لا أريدُ أن أتأخر.

- ما رأيك بفنجان قهوة أمريكانو ؟

و أفلتت مني ابتسامة عابرة. و بقرار منها ، و على الفور ، ضغطتْ دواسة البنزين و تجاوزتْ السيارة التي كانت بجانبنا ، و أظن أن العجوز السائقة لم تعتقنا من شتائمها إذ رأيتها تشيحُ بيدها و علائمُ الغضب بادية على وجهها.

و لم يمضِ وقتٌ طويل. حزرتُ أنها ستأخذني إلى أرسطو. و هناك وجدتُ راجي لا يزال يرتّب أغراض المطبخ و يفرمُ اللحم بواسطة الآلة الكهربائية. مسحَ كفيّهِ بإهمال على خصر بنطاله و تقدّم منّا مدهوشاً لا يحيرُ على كلمة.

قالتْ :

- صباح الخير أستاذ راجي. لو سمحتْ ، اثنان أمريكانو حجم وسط.

و كالروبوت أو الرجل الآلي انبرى راجي يطحنُ قهوة الأمريكانو و يسخّن الماء.

جلسنا. المشكلة أنني كنتُ خالِ الأفكار ، لم أرتّب ذهني المُضطرب و بالتالي سأكونُ فريسة سهلة للزلل و اقتراف الإنفعالات.

- أعرفُ أنك ستصمتْ ، سأشعرُ بأنني أكلّم نفسي ، و سيمدّك ذلك بالزهو و الغرور . لكن لا بأس ، سأضعُ في رصيدكَ النقاط و أشرحُ لك ما تمنيتَ أن تسمع خلال السنتين الماضيتين.

- لقد قال الغيابُ كلمتهُ . يكفي ابتعادك و إصرارك أن تحافظي على نفسك في منأى ، ماذا فعلتُ لكِ يا سيدتي ؟

هل حياتكِ الآن أفضل ، أتمناها كذلك ..

- أين تذهب ؟ ، لا تفعل ما فعلتُ أنا ، اترك لي فرصة للتعبير. و كانت لا تلبثُ في مقعدها ، ياسمينة لا تراوحُ حوض الفخارِ المُصمم لها.

و استأنفتْ جادّة.

- السبب هذا .. و ألقتْ بهاتفها المحمول على الطاولة.

- حتى الهاتف قد نالهُ العتاب ؟! .. ما خصّه ؟ ، لا تخبريني أنه لم يكن يتلقى اتصالاتي و رسائلي مُتعمِداً ..

- عنيتُ الكاميرا .

- الكاميرا ؟

- أنت لا تفهم ، تركب رأسك و لا تستمع إليّ !

- ربما .. لكن ما ذنب الكاميرا بالضبط ؟

- كانت كل حياتي تتشكل بصور الكاميرا ، كاميرة صديقاتي ، كاميرا أشخاص في الطريق ، كاميرا طلابي في المركز .. أينما أذهب ، كاميرا .. كاميرا .. كاميرا ..

- و أنا أول واحد رسمك ؟! ، هل هذا ما تريدينَ قوله ؟

و رأيتُ عينيها تكبران مثل شمسين تجترحان الأفقِ في ميلاد البزوغ من خاصرة الأفق ، تعتذران و تنتظران قلباً نالهُ إنهاكُ البحثِ و تعبُ سنتين كاملتين دون جواب.

30 - تموز - 2017

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

 

 نهاية الصيف في أرسطو - بقلمي .
بداية
الصفحة