" .. فتات و أحاسيس ... "
---- بقلمي
انبسطت فصول المسرحية أمام أعينهم ، و مازال نزيف الألم يسيل على الخدود ، و مازال الأسى يغلف الرصيف بفتات الخبز ..
اتجهت الأنظار نحو الطائر الكاسر يحمل بين جناحيه بردا و شررا للعباد و البلاد . يحوم فوق رؤوسهم تارة ، كملك يزمجر .. يسن قوانين لحظية .. يحاكم ، يحاسب و يعاقب .. و تارة ينزل ثم ينزل حتى يلامس رؤوسهم ، ليكشر عن أنيابه السوداء .
- كم مرة قلت لكم .. أنا لا أحب رؤية وجوهكم الشاحبة بساحتي هاته !
يركل ذلك الصندوق الخشبي المهترئ برجله ، تتكسر إحدى أطرافه و تنغرس بلحمه .. يتأوه و يزيد شظظا .
- بؤساء ، حتالة .. يصرخ بعصبية .
- أين تريدنا أن نذهب ، أليست هذه الأرض أرضنا ، و هاته الساحة ساحتنا كذلك .. و كيف يجعل الإسترزاق في أرض الرب منا حتالة يا سعادة المبجل ! .. تنطق عجوزة الملامح مرتخية العينين ، بجلابتها المهترئة و خطوط الزمن المتعب تؤثث خدودها .
يفترسها الطير الكاسر من غطاء رأسها و يرميها كالجثة الممزقة ..
- خدوا هاته البائسة للحجز .. سأريها لاحقا كيف تفتح فمها لأسيادها ..
ينتشلها شرطيان بسرعة ، يناولها أحدهما وشاحها بيد مرتجفة و يسوقها نحو العربة البيضاء بشيء من الرأفة ، بينما يرجع الآخر ليرسم على وجهه النظرة الباردة التي تليق بتلك المهزلة .
يزيد سكون المارة ليصير كصمت الأموات ، لا أنفاس ، لا مشاعر و لا حياة . يقف بعضهم متفرجا ، و يمضي حال سبيله البعض .
هناك ملتصقة بالأرض ، ملتوية على نفسها ، تغطي ذات الخامس عشرة ساقها الدامية و هي تسحب من تحتها رزمة بيضاء ، تفكها و تمدها بارتجاف نحوه ، بعيون ملؤها احتقار و كره و قلة حيلة .
- هيا خدها .. خدها و اتركنا لحالنا .. تكفينا الحياة بظلمها ، أن تفرض علينا أربابا يسقوننا سمها ، يسرقون نور شموعنا ليدخنوا بها لفافات عمرنا ..
- إن لم يكن لك قلب يلين ، فلك جيب إليه تميل .. خدها و انقلع ، و اتركنا لبؤسنا ، لمر الأيام و بساطة خبزنا ..
يتطلعها الطير الكاسر من علياء سماءه ، لا يصله أنينها .. يعد القطع الصفراء .. لا يغريه عددها ، فهو لطالما كان متفوقا بالحساب ، فليست كل فريسة تستحق أن يخفض من أجلها جناحيه . يبتعد مستخفا سداجتها و يرجع يحوم حول الأسرى الآخرين .. تُسقط من يدها الرزمة و تتحسس أمامها سكينا صغيرة .. تقبض عليها بغضب و تنطلق نحوه عازمة ..
- سوف أقتلك .. سوف أقتلك .
يفترسها أحد الشرطيين بقوة ، يغلفها بيديه فتخور قواها تحت هول جثته الضخمة و ثقل أنفاسه . يرمقها الكاسر بامتعاض .. يخطو نحوها فيرتطم كفه العاتي بخدها الطري ليترك على صفحته احمرارا و خطا داميا يصل أنفها بشفتها العليا ..
- و الله عشنا و شفنا ! أتعرفين يا غبية عقوبة تهجمك على ظابط شرطة من شأني أنا !؟ .. ينطق بازدراء ثم يركلها أرضا لتخر جثة هامدة تتساقط معها ألامها ، دموعها و كل ذرة من عزة نفس تبقت لها ..
يزيد تعداد المتفرجين ، فالمسرحية وصلت ذروتها ، ففي النهاية هي مجانية و زادت أحداتها تشويقا هذه المرة .
- ألا يجب علينا التدخل !؟ .. يهمس أحدهم بأذن صاحبه .
- أأنت غبي أم ماذا ! تتدخل بماذا ؟ مع من و ضد من ؟
ترمقها عيونهم بنظرات حزن و حيرة بعضها ، و بالفضول و التعجب بعضها الآخر ..
- يا لها من مسكينة .. أي ذنب هذا ، بيع الخبز بجنبات الطريق !؟ هي لا تؤذي أحدا ! .. أليس الأحق بهذا العنف ، بهذا التفاني ، أولائك الذين يسممون أولادنا في الأزقة المظلمة و عند كل ركن من أركان المدارس .. تنطق أخرى .
- اصمتي يا امرأة .. اتريدين هلاكنا .. لا دخل لنا بهم .. إنها الشرطة ، فليفعلوا ما يشاؤون .. و من جهة أخرى ، هم لا يقومون سوى بعملهم و هو تطبيق القانون ، فالبيع العشوائي ممنوع .. يرد عليها زوجها .
- بذمتك يا رجل ! .. تعنفه ..
يخطو الكاسر نحوها تحت أنظارهم جميعا ، يتوقف فجأة .. تمتد ذراع شاب سمراء تغطيها خدوش و كدمات لتنتشلها من الأرض الباردة ، يرمقها بحنو و ينتصب مواجها الظابط و زبانيته فارجا عن كتفين غليظتين و وجه عازم . يمد يده خلفه ليفتح مطوة امتدت من خصره لركبته . يستنفر تدخله الشرطيين ، فيلتمسان مسدسيهما في عجل ..
تسطفق أسنان الكاسر فيصيح بحركة من يديه :
- ما دخلك في هذا أيها اللقيط ! لم يتبقى لنا إلا أن يدافع الأصم عن البكماء .. يالجمالكما .. فولة و انقسمت نصفين .
خزر به الشاب فارتعدت فرائصه كثيار كهربائي يصعقه من دون سابق إنذار .. يخطو نحوه مترا بثبات ، فيخطو المكسور مترين للوراء ..
- سيدي .. سيدي ، مالعمل الآن !؟ .. ينتشله أحد الشرطيين من رجفته .. يتلعتم بكلام غير مفهوم ، يسرط ريقه ثم ينطق بكلمات متقطعة :
- لا .. لا شيء ..
يرمقه الشرطي باستغراب فيردف بنبرة معاتبة :
- مالذي تنظر إليه هكذا ! إنه مجرد مجنون ..
ثم يتمتم لنفسه مواجها كاسره :
- لقد كبرت وصارت لك أجنحة إذا .. حسابك معي المرة القادمة ..
يرفع الشاب مطوته نحو الظابط ، ثم يشير بعينيه للعجوز المكبلة جانب عربة الشرطة البيضاء ..
تتناقل نظرات الشرطيين بين المطوة و الوجه الموحول عند نهايتها ، و قبل أن ينطق أحدهم ، مد يده الأخرى خلفه ليسحب سلسلة حديدية ، لضخامة حلقاتها و كبر حجمها يتساءل المرء أين كان يخفيها ، يطلقها فيقع طرفها على الأرض محدثا صوتا مدويا يشق صمت تلك اللحظة .. يسحب الشرطيان مسدسيهما من غمدهما منتظرين أوامرهما .
في غفلة من السكون التام ، ينظر المكسور حوله ، الحركة بالساحة توقفت كليا ، و كل البائعين بالسوق المقابلة قد حجوا إليهم .. يرى بعض الأيادي المحيطة و قد كثرت ، و هي تمسك بالحجارة ، بالأوزان و بعض العصي الخشبية . يزيد ارتعاشه و اصفرار وجهه و هو يطالع الفصل الأخير من هاته المسرحية التي لم يحسُب له حسابا ..
يلتفت نحو أحد الشرطيين و بكلمات حذرة يأمره :
- اذهب و أطلق سراحها ..
تجيبه نظرات التعجب المرتسمة بوجه هذا الأخير فيصرخ به ..
- أ أصابك الصمم أنت أيضا أيها الغبي !
ينتفض هذا المسكين من الحالة الدفاعية التي تجمد عليها ، يهرول نحو العجوز يفك معصميها ، يشير إليها أن تنطلق حرة ببسمة تخفيها شفتاه .. يتبعه زميله بينما يرجع قائدهما بحركة خلفية و هو يتوعد الكل بعقابه القادم ، ثم ينطلقون وسط صيحات الدموع و صرخات الألم ..
تعانق العجوز صندوقها الخشبي في حين و قفت الفتاة تتطلع منقذها و الدموع سيول من عينيها ، تشكره بحركات من يديها على صنيعه هذا و هو يعيد السلسلة خلفه راجعا لركنه المعتاد ، يضع المطوة جانبا و يمسك بيده الأخرى ما تبقى من لفافة تبغ تركها تحترق ..
أخد نفسا عميقا و أخرجه محملا إياه تنهيدة ملؤها حزن و حسرة ، فارتسمت له بالدخان خيالات و خيالات ، لم تكسرها سوى أجنحة الحمام المرفرفة التي نزلت بالساحة لتنظيفها من فتات الخبز المترامي هنا و هناك ..
Just_another ..