( كم أعشق فراخ الطير الزغب ، والشمس ودفء الربيع ، وعيون المها )
حكيم 2222
الأصل
كنت الصغير في أسرة كبيرة ، تسعة من الإخوة والأخوات ممن يظهر البؤس على وجوههم صارخا . كان أبي ممن يتقنون التنصل من المسؤولية ، وكان أمي لاهية عنا منشغلة بما تدبر من هنا وهناك كي لا نبيت على الطوى كنت الصغير الذي يتعرض دوما لصنوف الاضطهاد ، القسوة هي طبع اخوتي الكبار .
كانوا غلاظا لم أشعر يوما من أي منهم بألفة أو بمحبة أو حتى ببعض اهتمام . لا زلت أذكر حينما قبضت الشرطة على أخي الكبير لأول مرة ، وكان حينها قد جاوز السادسة عشرة بقليل ، إخوتي لم يأبهوا به أبدا ، حتى أمي .. أمي بكت قليلا ثم ما لبثت أن نسيته قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم ، والغريب أنه هو أيضا لم يلتفت إلى أمي لائذا بها ، بل قاوم الشرطي الجلف الذي أمسك به وأوسعه ضربا أمامنا كي يخضعه فلا تبدر منه مقاومة بعدها .
أما أبي .. فكنت أنا من سارعت لإخباره عند دخوله ليلا ، نظر إلي للحظة ، ثم مضى من دون أن ينطق بكلمة . كانت الكلمة التالية التي صاح بها ( قلت لك أيتها ال..... أن يكون طعامي جاهزا عندما أعود ) أيقنت يومها أنني إنما أمضي أياما مع غرباء ، وليس من اعتبار أبدا للدم عند المسحوقين .
البداية
كانت مدرستنا تحتاج المشي زهاء ساعة ، فإن كانت الشمس ساطعة والجو جميل ، اخترقنا بعض البساتين والحقول كي نختصر بعضا من المسافة التي تحكمنا بها الطريق الزراعية . وكان امجد ( العنين ما غيره ) ابن الإقطاعي الذي يغير ملابسه كل يوم يسير معنا أحيانا . فوالده الأحمق كان يرى أن ولده لا بد أن يكون متخشنا مثلنا ، ولكن كيف يتخشن ذلك المنتفخ الذي يشتري كل يوم صنوفا من الطعام والشراب من مقصف المدرسة من تلك التي لامست بعض حواسنا ولم تلامس الأخرى ( أقصد السمع والبصر ، ولم تلامس التذوق ) سار أمجد معنا من خلال حقل الذرة ، لكن القدمين اللتين تتراقصان من تحته قد خانتاه فسقط على الأرض . عندها فقط .. تقافزت أمامي متلألأة ، نصف دينار فضية مذهبة الحواف ، طارت وانغمست جزئيا بالتراب . كانت عيناي متعلقتان بها حتى سقطت ، ولست أدري ما الذي جعلني أتقدم مباشرة نحو القطعة النقدية وأدوسها كي تختفي بالرمال تماما . قام الصبي ، وضحك الفتية على سقوطه ، ثم ساعدوه في البحث عن ماله بعدما اكتشفوا فقدان المال . لم أتحرك من مكاني ، طلب مني أحدهم أن أساعدهم ، كان موقفي غير مبرر إطلاقا ، فاتخذت موقفا متطرفا أكثر ورحت أسخر من أمجد وأسفه كلامه وأغرس –قدمي- في التراب أكثر كي تغور القطعة النقدية وتختفي . امجد دافع عن نفسه بقوة ، فما كان مني إلا أن زدت جرعة السخرية أكثر وأكثر . توقف الفتية عن البحث إذ أن الأمر مؤذن بحدوث عراك ، وكان لهم ما أرادوا . كنت أعلم أن خسارتي لتلك المعركة تعني خسارتي للمال ، فقاتلت بكل قوتي ، حاربت حربا شرسة انتهت بسحقي لذلك الثخين ، أشبعته ضربا بعدها كي يعلن استسلاما تاما . هابني الأولاد ساعتها ، وابتعدوا عني رهبة مني ، فتأخرت قليلا واستخرجت النقود ، ورحت إلى البقالة القريبة واشتريت طعاما وحلوى . كانت الحلوى لذيذة ، وكانت الشطيرة مشبعة ، ثم قفلت عائدا للمدرسة متأخرا ، فنلت عقوبة التأخر وعقوبة أخرى لضربي لابن الإقطاعي ، لكن حلاوة الحلوى بلساني طغت على ذلك كله ، شعرت بأن الطعام والحلوى كانتا مكافأة لي على النصر .
في اليوم التالي صرت كالعنزة الجرباء ، لا يقترب أحد مني مخافة وخشية . لم آبه لهذا بل اهتممت أكثر بالحصول على وجبة مشبعة أخرى وحلوى .
كمنت لأمجد في الحقل يوما ، وكان يسير بمفرده وخرجت له فجأة . فخاف وارتعد . وجدتني في حالة الآمر الناهي ، ووجدته في حالة المطيع الصاغر ، ووجدت الكلمات تتدحرج على لساني
- إن كنت تريدني ألا أضربك ، فهات نقودك
- حاضر .. حاضر
- وإياك ثم إياك أن تخبر أحدا ، وإلا أمسكتك كما نحن الآن بمفردنا ، وساعتها سأقطعك .
عرفت يومها كيف أتحين الفرص للإنقضاض على مال هنا أو هناك أتغوله وأحتازه لنفسي .
القناع
كان معلم اللغة العربية يحرص على أن يأخذنا إلى المكتبة المدرسية كل خميس ، في إحدى تلك الأيام طلب إلينا أن يستخرج كل منا حكمة من كتيب يقرؤه . أخذت كتيبا ودفعت به لخالد ، وخالد هو دودة القراءة بالصف ، قلت له أن يقرأه ويأتيني بحكمة منه . خالد كان من الأولاد الذين لا مال لهم ، فكنت أحاول تثبيت قدرتي على التنمر عليه بهذا الفعل ، لعل ذلك يفيدني لاحقا فترة الاختبارات . كان لي ما أردت ، وجاءني خالد بحكمة مفادها أنه لا ضير من ارتداء الأقنعة على ألا ينسى المرء وجهه الحقيقي ، كانت العبارة غير واضحة البتة ، فتطوع خالد بشرحها ، وقد أسقطتها على حالي بأنه لا بأس بالنسبة لي أن أرتدي قناع القسوة ما دمت في حقيقة أمري طيبا . صرت بعدها أقسو أكثر على الفتية كي أحتاز مغانم أكثر ، صرت آخذ فتى صغيرا بعينه (خلف مصنع الكراسي*) كي يعرف كل الفتية ما آلت إليه أخلاقي من سوء . لكني – وللأمانة – لم أكن أفعل له شيئا بالمطلق . وكنت أنتوي أن أحفظ ستري عليه ، إلا أنه قد خرج مؤخرا متحدثا عن الأمر برمته أمام الملأ بغير حياء ولا خجل . يبدو أنني لم أكن وحدي من يأخذه خلف (مصنع الكراسي *) . أو يبدو أنه قد اشتاق لأيام خلت !! فعلا كما يقول الأتراك (( أدب يوك .. أدب سيس ))
المآل
كبرت وكبر شري معي ، وتعرفت إلى سلمان الشر ، وكان سلمان من أرباب السوابق وأصحاب الجرائم ومن عائلة مشتهرة بالإجرام . فقد كان جده عدوا للوطن قائدا لعصابات (المطاريد) في الصحراء ، ولم يكن يتورع عن بيع أي شيء وكل شيء في سبيل مصالحه ، كان يتاجر بالمخدر وبالسلاح وبكل ما يدر المال . رآى أني أذكره بنفسه ، بينما رأيت به قدوتي . فهو يملك المال الكثير ، ولديه نساء يقضي وطره أنى شاء ، ولديه أتباع يفتدونه بأرواحهم قد بلغ السفه منهم مبلغا عظيما . ولعل تلك الثلاثة الأشياء هي حاجاتي الأساسية الآن . فتبعته .. وبايعته على أفتديه وأخدمه وأقبل بما يمنحني ، كانت نفحته الأولى لي أن أعطاني ( ذهيبة ) تلك الفتاة (الشمّامة) لليلة . وأعطاني مادة أقوم بشحنها بها . واقعتها مرات عديدة .. كانت متعة كبيرة لي ، أما هي .. فقد كانت عني ذاهلة ، وعندما أخرجت المسحوق الأبيض انتبهت . أعطيتها القليل فانقضت عليه تنشقه ، وغابت من جديد.
غريب .. ما السر في هذا القليل ؟
حسن .. سأجرب قليلا ..
قليل منه فقط
سأحتاط .. قليل بل أقل من القليل .
كيف فعلت ؟؟؟
ماذا فعلت ؟؟
نشقته بقوة ..
هكذا .. ... ...