الطلب الغريب
(الاشخاص خياليين لكن الوقائع التاريخية حقيقية بنيت عليها القصة )
"انت متفرغ دكتور عمر ؟ لدي موضوع ارغب ان اطرحه عليك وان نتناقش فيه ان سمحت لي"
"طبعا , تفضلي ابنتي اجلسي النقاش مع طالبة مجتهدة مثلك مكسب لي"
( حوار بين طالبة جامعية اسمها فرح طالبة مرحلة رابعة في كلية الفنون الجميلة قسم الفنون التشكيلية جامعة البصرة – العراق واستاذها الدكتور عمر )
" لقد طلب منا لوحة تشكيلية تعبر عن صرخة ألم , وانا لهذا السبب جئت اليك لتساعدني"
ابتسم دكتور عمر ثم رد عليها
" نحن في العراق يا أبنتي .. كل فرد فيها يعيش يوميا على وجعه الامتناهي لماذا تشعريني كأنك بعيدة عن واقع بلدك المؤلم ؟!!"
" اعرف دكتور لكني ارغب ان اصور ألم اخر , وجع فرض عليه مجتمعنا المحافظ ان يكتم صرخته وان يتلوى ألمه بمفرده بعيدا عن اعين المراقبين .. انه وجع العشاق وفراق المحبين " احمرت وجنتي فرح خجلا واكملت كلامها " لذلك انا اطمع ب كرم حظرتك وأتجرأ انا أطلب منك هذا الطلب الغريب وأتمنى ان لاتسيء الظن بي فاأنت تعرفني دكتور على مدار الثلاث سنوات اني من المتفوقين واني اعتبر الفن رسالة نبيلة واخذه بجدية شديدة و ..." قاطعها دكتور عمر
" ماهو طلبك الغريب ؟"
" حسنا .. امم .. هو .. ساتكلم مباشرتا ومن دون لف ودوران .. لقد سمعت من بعض الطلبة انك عشت قصة حب لم يكتب لها ان تكتمل وانها غنية بالاحداث لذلك رغبت ان اصورها بفني لكن اردت ان اسمعها من مصدرها وهو انت دكتور " انهت جملتها وقد شبكت اصابع يديها مع بعضها لتلامس شفتيها لاأراديا للتوسل والرجاء
ضحك دكتور عمر واخذ ينظر لفرح مطولا وهو يضرب باأحد اصابعه على مكتبه ليصدر صوتا كان له وقع مخيف في قلب فرح بأن القادم اعظم , واخيرا كسر الصمت المخيف بقوله
" طلبة هذه الايام لايعرفون حدودهم .. نصيحتي لك ان تعبري عن فنك بوجع أماً ثكلت باستشهاد ابنها في احدى الحروب التي مرت على هذا البلد او أباً وقف ينتظر عودة ولده من عمله ليفجع بخبر انفجار عبوة ناسفة في طريق عودة ولده لتزهق روحه وتندمج بقاياه مع من كان معه في السيارة او .. او.. او فالعراق كمسرح مُثلَ عليه كل انواع المأسي والاحزان , ولاني اعرف مدى موهبتك فاأنا على يقين انك ستعبرين عنهم اجمل تعبير "
ردت عليه فرح بعد ان تملكها اليأس " مع احترامي الشديد لكل ماقلته واحترامي الشديد لاوجاع أهالي الضحايا فاانا لست بعيدة عن هذا الوجع فقد خسرت عمي بعد ان اطلق عليه وابل من الرصاص من قبل جنود الاحتلال بعد ان حاول ان يجتاز رتلهم العسكري بسيارته شاهدت الوجع وعاصرته , لكني كنت ارغب ان اتميز عن بقية الطلبة بطرح موضوع بعيد عن البال .. شكرا لك دكتور لنصيحتك واعتذر لك لم يكن هذا عن قصد فثقتي العالية بنفسي خانتي هذه المرة وجعلتني اتجاوز حدودي معك واسفة لاني ضيعت وقتك " نهضت فرح من كرسيها تهم بمغادرة المكان , ليتكلم دكتور عمر
" اسمعي فرح اعجبت بمدى شجاعتك وجرأتك على طلبك الغريب لكن قبل ان اغير رأي و اوافق على طلبك عليك ان تعرفي مدى المخاطرة التي ستتحتم عليك : ان لم اعجب شخصيا بمشروعك فسأحرص ان لاتتجاوزي مادتي لاتنسي هذه حياتي الشخصية وسقف توقعاتي سيكون عالي جدا فما قولك ؟ مستعدة للمخاطرة بمستقبلك الدراسي ام الخوض في المضمون والتفوق فيه افضل ؟"
ردت فرح باأبتسامة " انا اسمعك دكتور تفضل هل تحب ان تحكي لي الان ام في وقت اخر "
ابتسم دكتور عمر ومال بكرسية جانبا ماسكا بقلمِ حبراً بيده الذي كان يحركه بين اصابعه وشرع بسرد حكايته
" بداية الحكاية بسيطة للغاية ابن الجيران الذي يغرم سراً ب ابنة جارهم .. فاطمة وما ادراك ما فاطمة .. تلك الفتاة السمراء ذات العينين الواسعتين السوداوتين كسواد شعرها الفاحم الذي يتدلى على ظهرها بظفيرة تتأرجح بحركتها كحركة نبضات قلبي صعودا ونزولا , كنت اكبرها بثلاث سنين دوما كنت اتخلى عن حضور المحاضرة الاولى لانه كان لزام عليّ ان اقف في اول الشارع انتظرها وهي ذاهبة مع رفيقاتها للمدرسة , مضت الايام وفاطمة دخلت للكلية اصبحت لا تبعد عني الكثير يوما ما استجمعت شجاعتي وقررت ان اتحدث معها فقد حان الوقت لم يتبقى سوى اشهر قليلة واتخرج , رأيتها من بعيد وهي جالسة مع رفيقاتها توجهت صوبها وقلت لها
" فاطمة ارغب بالحديث معك على انفراد لو سمحتي "
احمرت خجلا لاتعرف ماذا تصنع وابتعدن رفيقاتها بضعة امتار وعيونهم ترصد فاطمة . وقلت لها
" لااعرف ان كنت لاحظتي لكني معجب بك منذ سنوات وطالما راقبتك في طريق ذهابك للمدرسة " كنت متوتر والعرق يتصبب من جبيني تحول لون وجهي من الابيض الى الاحمر لكنها ابتسمت بخجل لتظهر تلك الغمازة الجميلة التي توسطت خدها كم رغبت بطبع قبلة على خدها الذي تلون خجلاً , لقد كانت تعرف بمدى تعلقي بها انتبهت لوجودي بالشارع انتظر طلتها واكملتُ كلامي " انا جاد بكلامي وقبل ان ارسل اهلي لبيتكم ارغب ان اعرف رأيك "
"ماذا قالت " سالت فرح
"بالطبع لم تجيب كانت ابتسامتها اكبر نعم لي " و اكمل كلامه "كنا في سنة 1979 حيث الانفتاح والتحرر لاتوجد طائفية في ذلك الزمان الاخلاق كانت معيار الشخص ليس كوضعنا الان الطائفية المقيتة التي تفشت عند بعض العائلات , وذهبنا لزيارتهم وكانت عائلتها مرحبة بنا وحدد موعد يوم الخطبة لكن حدث مالم يكن بالحسبان " صمت قليلا ثم اكمل كلامه
" النظام الحاكم في ذلك الوقت اصدر قرار بحق بعض العائلات بانهم لاينتمون لهذ الوطن حجة منه لنهب اموالهم واراضيهم فقام بتهجير قسري لهم بطردهم من بيوتهم ووضعهم على حدود تلك الدولة المجاورة وعائلة فاطمة كانت من ضمن تلك العائلات اجبروا للخروج من منازلهم ليلا تاركين كل شي ورائهم وطنهم .. اصحابهم .. ذكرياتهم .. اموالهم وعقاراتهم .. وانا ..قست الدنيا على المحبين لتستكثر علينا لحظة الوداع , استيقظتُ صبيحة اليوم الثاني على ضياع فاطمة .. ضياع حبي .. الذي هرب مسرعا خوفا من بطش ساسة ذاك الزمان وبعدها باشهر قليلة اندلعت الحرب الطويلة بين البلدين لينقطع الامل بعودة فاطمة للعراق, مضى عقد على رحيلها لارضخ أخيرا للواقع المر واستسلم للوداع , تزوجت ابنة عمي .. زوجة فاضلة رزقت منها بثلاث اطفال ولدين وبنت اسميت ابنتي فاطمة ومضت السنين بحلوها ومرها وهي على بالي لم تفارق خيالي حلمت بلقائها مجددا على ارض الوطن يلتقي المحبين , وبعد 2003 بدأ العراقيين المغتربين قسرا بالعودة الى وطنهم أملت بعودتها لكنها لم تعود .. استقصيت اخبارها و لأول مرة من مغادرتها للعراق وصلتني اخبار عنها وعن احوالها اصبحت جدة "
"وماذا حدث بعدها ؟ لم تعود للعراق مطلقا ؟"
" كلا بل عادت ب حزيران من سنة 2006 عادت فاطمة للعراق , لكنها قاسية القلب قررت السكن بعيداً عني بعيدا عن البصرة بعيدا عن الحي الذي ولدت وترعرعت فيه قررت ان تسكن بمحافظة جديدة وكأن الغربة حكمت عليها بالمؤبد ,ما ان سمعت بعودتها حتى ركبت بسيارتي وانطلقت مسرعا اربع ساعات تفصلني عن فاطمة .. 27 سنة من الاشتياق والالم .. سأراها اخيرا . خلال ساعات الرحلة لها وانا افكر ماذا اقول لها ؟ هل اعاتبها لرحيلها عني ؟ وانا اعرف انه لم يكن باليد حيلة
او اعاتبها لزواجها السريع من غيري ؟ أنست حبنا بسرعة ام كان الزمن والاهل اقوى منها ؟ ام اسالها عن احفادها ؟ام اشرع بعناقها وحضنها فهي محبوبتي انا الاولى والوحيدة , كل تللك الاسئلة تلاشت عندما وقفت امامها وقد ساد الصمت بيننا .. التقينا اخيرا عندما انتهى وقت الكلام .. سرت مبتعدا عنها متوجهاً لسياراتي اسير بدرب الذي جئت منه ورجليه تغوص في الارض الرخوة .. تركتها خلفي .. قطعة رخام كتب عليها
بسم الله الرحمن الرحيم
" أن الابرار لفي نعيم "
المرحومة
فاطمة حسين شبر
18/6/2006
اعاد دكتور عمر كرسيه لوضعه الصحيح نظر لفرح وهي تكفكف دموعها لم يقل شيئا فاشار بيده التي تحمل القلم لفرح ان تخرج فهمت بالحال انها فتحت مغارة احزانه وان عليها النهوض بسرعة وتركه يعالج جرح الزمن . نهضت وقالت له
"شكرا لك دكتور لمشاركتي قصتك لن اخذلك وسأاصورها افضل مايمكن " خرجت واغلقت الباب خلفها ليشرع الدكتور عمر بترديد شعرا بصوت منخفض يكاد ان يكون همساً
سنين وقلبي يصرخ يائساً يافاطمُ متى يرق قلبك متى اللقاء
ليستجيب لي اخيراً قلبها في *وادي الســـلام يكون الـلقاء
تمت//
*وادي السلام : هي مقبرة النجف في العراق