| ســـــــــــراب الحــــــــقيـــــــقة - على أرصفة الذكريات تبنى الكلمات - وسط أكوام المشاعر تختبئ الآهات - على حدود الشوق تختلج العبرات بهذه الأسطر الثمينة التي طبعت على دفتر فؤاد والتي جمعها كأثمان راقية جبلت بين أنين الخوف و ركام الأحزان كيف لا وهو شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره قصير القامة تبدو على سحنته ذبولا يعيش حياة كئيبة سطرها الضياع وبصم على أختامها مشواره التعيس في رحلة البحث عن عمل والتي لم يوفق فيها لحد الآن ، هذا الأمر جعله يلعن كل الأشياء من حوله، وسط ضبابية سوداء تكدر حاله لما يجن عليه الليل بخيوطه الداكنة ليصبغ على جدران أنفاسه اللاهثة أخيلة الأماني الضائعة ، في تلك اللحظة الحرجة و النبضات تخنقه رمى بثقله على قفل الباب ودفعه بقوة متجها صوب سيارته المركونة بأسفل الشارع الذي كان يبسط عليه هدوء الظلمة و أضواء خافتة تتلاقى عن بعد ، كانت عيناه تتشحان عصارة الألم شعل المحرك واتجه نحو الشاطئ، عسى تلاطم الموج يخفف وطأة المعاناة . على خط انسيابي يمر وسط أحراش لزمت جنباته ورياح تستلطف أوراق الشجر فتداعب وجنتاها المورّدتين وقمر بدأ يطل بنوره شيئا فشيئا ليغمز البحر بكف الحنين ، بعد مسيرة ساعة من الزمن وصل فؤاد إلى الشاطئ و أنفاسه تحتضن تلك الرمال الذهبية التي ترسم على خد الطبيعة سحر المكان مشى خطاه بتثاقل و والهم يشد على يديه بعنف بدأ يقترب من الصخور التي اعتلت تلك القمم محاولا الجلوس في إحداها شاخصا بصره صوب الأفق تلهث أسفل لسانه تعبيرات عميقة وشكوى تتناثر أحرفها كمد الزبد الذي كانت تشكله الأمواج المترامية الواحدة تلو الأخرى . وبينما هو في مناجاته وعزلته و وحدة تلتف على قواه المنهكة إذ به يلمح طيفا عابرا كالضباب تتسابق خطوه المتعرجة لدرجة أنك تحسبه شخص قد ثملت به الحياة و أطلقته منهارا تتلقفه الرمال. تعجب فؤاد لما رآه فتبع ذاك الطيف متقصيا حقيقته ، على مساحة خالية تشعر لما تطؤها قدماك بالهجر و الوحشة ( هذا ما أحسه وهو يقترب من هناك ) لمعت تلك العينين من بعيد ثم استترا وهكذا تواليا ليستشعر بعدها بهالة من الحزن طافية على جسد مترهل قد التصقت ضلعاه مع بعضهما ، غاصت رجليه بالرمل حتى أصبح كجماد ساكن بلا حراك اتضحت معالمه مع كل اقتراب دنى منه ببطء و بنبرة متوجسة قال فؤاد متفحصا ذاك الرجل : ما بك يا سيدي أهناك خطب ما رد عليه ونظراته كانتا تسرحان في السماء كأنهما تبحثان عن مخرج : لا شيء سوى أن الذي أتى بي إلى هنا وهو نفس ما أتى بك أنت ، حقا إنها لحظات تعيسة تلك التي نحملها بين ضلوعنا فلا نقوى على تحملها لشدة وقعها على نفوسنا فلا نجد غير سكون الليل نبعث له بآلامنا و شكوانا الملتصقة بشفاهنا المحترقة . الشوق الشوق ما أصعب هذه الكلمة ، أليس كذلك ؟ - نعم إنها تحمل في طياتها أشياء غالية وثمينة قد نفقدها يوما فنستذكرها بلا توقف ولا ندري هل تحصل عليها أم لا . على وقع هذه الكلمات بدأت عينا الرجل تذرفان الدمع الحار المسكوب باختناق وهمس قائلا : قد أصبت الجرح أيها الشاب قد أصبته ثم عاد لسرحانه مجددا مطأطأ رأسه إلى الأرض هذه المرة . لثم الصمت شفتا فؤاد هنيهة كأنه يفكر فيما يقوله ليهم قائلا باسطا يديه إلى الأمام : وما هذا الجرح يا سيدي ، أعلم أننا غرباء عن بعضنا ولكن يجمعنا ألم واحد وأشعر أنك تخبئ بين ركام مشاعرك آهات بالجملة أومأ الرجل صوب فؤاد وعيناه تتفرسان كل شيء منه : حسنا ، ربما قد تكون قصتي شفاء لما تشعر به " أنا رجل قد أنهكت الفاقة كل قواه فلم أعد أستطيع أن أشعر بإنسانيتي وسط أقوام البشر ، هكذا (أشار إلى أحد الزوايا الصخرية ) كهامش في مسيرة الحياة صب علي ركام الأيام لأدفن بلا ذنب ولولا تلك المرأة التي صنعت من بيتي جنة أسكن إليها كلما زادت شكوى نفسي من تصرفات الناس ، كلماتها هدهدات تطبب قلبي المنكسر فالوفاء و الصبر و الإخلاص كلها معاني وجدتها فيها بل إنها لا تعتب أو تغضب إن عدت لها يوما خالي الوفاض سوى من قطعة خبز صغيرة نتقاسمها نحن الإنثنين في كوخنا المنحدر وراء جبل قريب من هنا .. صمت للحظات كأن ما سيقوله شق عليه تنهد بعمق ثم قال : ولكن ، ولكن ، ولكن –وعيناه تشقان البحر – أجاب فؤاد : ولكن ماذا يا سيدي ؟ بنبرة مختنقة تكاد تصل مد الكلام : " ولكن اختفت كل هذا الأن و أصبحت وحدي أسير عزلتي و ناقما بلا توقف على ذاك الطبيب الذي أراه أمامي الأن مرتديا مآزره الأبيض محتضنة عنقه تلك السماعات ونظارات غطت عينيه الواسعتين لقد تصرف معي بلؤم شديد تلك الليلة التي لن أنساها ما حييت وكما ترى أجيء ، إلى هنا لأفرغ أوجاعي صوب أرواح الراحلين عسى تصل إليهم مناجاتنا الخرساء لم يرحم ضعف زوجتي و فقري الشديد فمن أين لي أن أدفع تكاليف العملية التي طلب الإستعجال فيها ولكن لما تفحصني جيدا قال لي : يبدو أنك لا تملك المال اللازم و أنا عن نفسي لا أستطيع أن أعمل بالمجان فلي إسمي و شهرتي كما لا أحب أن يشيع بين زبائني أنني فعلت هذا ..أمام الألم الذي كنت أراه على زوجتي التي تنهار كزهرة ذابلة تنساق إلى الموت رويدا رويدا حاولت استعطافه و اطلب رجاه أن يساعد هذه المسكينة من سبيل الإنسانية فيكفي ما ألقاه في الشارع ليصل حتى إلى المستشفيات.. قطب حاجباه ضاربا على يده بشدة "أرفض أرفض ولكن سأعطيك بعض المسكنات هذا ما أفعله لك قالها بكل بساطة ثم غادر القاعة دون عودة ، وأمام هذا الموقف عدت أجر خيباتي مستحييا أن أنظر لزوجتي التي قالت لي : "لا تقلق لا شيء يدعو للحزن سأبرأ بإذن الله "، وما خيم الليل مسدلا نقابه على شوارع البشر إذ بحمى شديدة ألمت بزوجتي وهي تشد سريرها كمن يصارع شيئا ما لتسكن بعدها كل حركة منها ، مت في تلك اللحظة ولم أشعر بما يحصل حولي تمنيت أن ألحق بها وكالصريع كنت بجانبها ، حملتها بين يدي هاتين و نفسي شاردة بلا عقل قد توارت تلك الروح الطيبة بين التراب لتسقط روحي معها هناك فما تراه الآن طيف عابر يمر كأشباح المساء .. امتزجت مشاعر الحزن والأسى في قلب فؤاد ليقول في نفسه : شيء مؤلم أن تجد إنسانا يبكي لفقد عزيز أما أنا فلتعاسة فرص ضائعة قساوة كل حزن تخفف وطآة أحزان أخرى . سمع الرجل همس فؤاد وقال : وهو كذلك ثم اختفى مثل السراب تاركا فراغا مثل الضباب يغطي المكان .. - ( هل كنت أكلم شبحا هائما ) عاد فؤاد أدراجه صوب مسكنه باسطا على راحتيه تلك الجمل التي دونها على دفتر يضعه دائما في جيب سرواله الأمامي مثل درر الكلام التي يرمي بها شاطئ الواقع على القلوب المنهكة .. إنـــــــتــــــهـــــت |