نزيف الروح - قصة قصيرة -
منذ نعومة أظافري شغفت بالأجهزة الإلكترونية، خصوصا المذياع و المسجلات الصغيرة، فكان لدي فضول كبير لمعرفة كيفية اشتغالها و تفاصيل تركيبها الداخلي، فضول معرفي دفعني أحيانا إلى العبث ببعض الأجهزة المنزلية، مما أدى إلى تعطيل بعضها، فنلت على ذلك ما أستحقه من عقوبة، كما عوقبت أحيانا بغير جرم، فبمجرد حصول مشكلة في أحدها توجه التهمة مباشرة لي في غياب قرائن دالة على البراءة.
كبرت و كبر معي ذاك الشغف، حتى تطور بي الأمر إلى الرغبة في تحويل تلفازنا القديم من الأبيض و الأسود إلى الألوان. استعملت لهذا الغرض وسائل متعددة و مبتكرة كلها باءت بالفشل إلا واحدة، فقد نجحت يوما في تحويل الشاشة إلى اللونين الأصفر و الأسود، بدل الأبيض و الأسود، بعد أن انسكب بغير قصد مني محلول كميائي أصفر داخل الجهاز.
بالطبع أنكرت صلتي بما وقع أول الأمر، إلا أن الإنكار لم يحل بيني و بين العقاب. لكن الثمن الأغلى لمحاولاتي تلك دفعته بعد حين، يوم كانت الأسرة كلها تقريبا في مأدبة غذاء عند بعض الأقارب، فاستغللت وجودي وحيدا لأعمل على التقاط قناة وطنية جديدة عبر تحديث أسلاك الربط. أخذت سكينا و بدأت بالعمل، حركة واحدة خاطئة لأجد السكين منغرزة في سبابتي اليسرى، جرح عميق ينزف دما كثيرا، أصبت بالارتباك و تسارعت نبضات قلبي، توجهت نحو المطبخ، وضعت أصبعي تحت الصنبور فاختلط الماء بالدم لكن النزيف لم يتوقف، أخذت ضمادة من الثلاجة و لففتها عدة مرات على أصبعي لكن السائل الأحمر ظل يتدفق. أصبت بالغثيان و خيل لي أن الجدار و السقف بدآ بالابتعاد عني و لم أدرك أنني سأفقد وعيي حينها.
هل كان الأمر بسبب شدة النزف أم هو الخوف من الموت و من منظر الدم المتدفق ؟ أعتقد أن الاحتمال الثاني هو الأكثر واقعية، تدعمه أحداث مشابهة. فيوم وجدت أمامي شابا يحتضر و قد غرز ساطور في رأسه حتى كشف مخه، لم تستطع قدماي حملي، و كذلك الأمر يوم نزلت من السيارة على الطريق الوطنية لأجد حافلة ضخمة و قد امتطت سقف سيارة و سحقت أجساد من كانوا فيها و من بينهم أطفال.
لم أكن أتحمل منظر الدماء النازفة حين كنت شابا يافعا، اليوم و أنا على مشارف الأربعين من عمري لم يعد الموت شيئا مخيفا، حتى منظر الدماء و لا الأشلاء لم يعد له علي ذات الوقع، فقد تكفلت نشرات أخبار الحروب و المآسي بتعويدنا على مشاهدة الفظائع. حتى أنني لم أشعر بالخوف حين اتجه مجرم نحوي حاملا سيفه، بعد أن منعته بيدين خاويتين من اغتصاب فتاة في مقتبل العمر، و لا شعرت بالغثيان يوم وجدت نفسي أمشي بين أشلاء رجل خمسيني، انتحر لتوه تحت عجلات قطار سريع، بل نظرت إليه بأسف و قليل من الشفقة... فقط، و أكملت طريقي إلى البيت.