جلست في مكانها المعتاد ..تراقب المارة عبر النافذة الزجاجيه ...
ناظرة ساعتها تنتظر نهاية الدوام . .
وكانت في ذلك اليوم... و ككل يوم تعيسة متبلدة الاحاسيس..
لوعة الآهات لا تفارق باحة صدرها مخلفة كوما من الغبار الأسود الثقيل ..
مرارة حزن لا تحتمل.
أغلقت دفتر المحاسبة و رتبت اغراضها داخل شنطتها الرمادية اللون و انتظرت لدقائق لعل رئيسها يطلبها لامرعاجل يهم الشغل ..لكنه لم يتصل.
داهم الوقت ساعة المغادرة ..تنهدت تنهيدة طويلة
تبعتها ضحكة سخرية متقطعة ...كم تبدو معاناتها سخيفة!!
همت بالوقوف و الانصراف لا تدري اي وجهة تسلكها ..
ألشقتها الباردة؟؟ أم المكان الذي اعتادت ان تطأه قدماها كلما اشتد بها الشوق للبكاء على الاطلال .
البكاء على الاطلال!! ...قالتها بحس ساخر .. .
راودها شعور قوي بمراوغة عواطفها هذه المرة فأرادت أن ترمي بذكرياتها عرض الحائط و تنسلخ عن ذاتك،
لتولد امرأة اخرى نشيطة مليئة بالحياة.
و قد ادركت أن العلاقة التي تعيش في الماضي وتقتات على الذكريات، مرهونة بالوقت، والتحدي لاجتيازها.
تركت كل الاصوات خلفها ومضت آملة في احياء بقية ذلك اليوم بكل ما أوتيت من حياة ..
تبعثر التوتر والقلق والاعتياد، وتتنفس هواء الحياة الرائع ،
قررت الخروج لتأتي بفصل الربيع، فتتفتح أزهار لسانها، وتنفض غبار الصمت عنه.
لتهرب من نفسها … تريد أن ترمي بأحزانها بعيدا عن حياتها بأسرها، ذكرياتها، مخيلتها وما تحتويه .
تريد لكل شيء مرهون بالماضي الاليم أن ينتهي الآن ...
خرجت تتبع خطواتها العشوائية قاصدة احضان الطبيعة تريد أن تخلو بنفسها وفكرها وقلبها و واقعها...
تبحث عن لمسة حانية ..
هناك حيث الطيور والزهور تهدي لها غاية المتعة والإمتاع دون مقابل ...
ورغم أن الزهور خرساء تنتشر هنا و هناك ،الا أنها تتمايل في دلال وجمال تبهج النفس الحزينة ناهيك عن انغام البلابل التي يهيم لها القلب اليتيم ويتمايل.
انعش ذكرياتها وجودها هنا في هذا المكان الساحر،
فرحلت معها الى ذلك اليوم الصيفي الجميل و"هما" يفترشان رمال ذاك الشاطئ الذهبية الجميلة...
حبيبان كانا...بقلبين عاشقين حد الجنون ،
رمتهما رياح الصدفة ليتقابلا و لاول مرة هنا على هذا البساط الذهبي الذي احتضنهما و منحهما مفتاح أسرار الاحلام الوردية
ليجدا الحب قد شبت نيرانه في قلبيهما ليجرفهما الى عوالمه ليحيا سعيدين قرب بعضهما البعض.
بيد انها لم تتوقع يوما ان القدر له قانونه الخاص وأن السعادة لحظية ..
وقد تقلب وجهها للاسود لترميها في محراب النسيان حبيسة الذكريات
ليتجعد الامل ،وتتعثر الأحلام ،و تضيع الامنيات.
ضمت يديها الهزيلتين إلى صدرها .. تسللت دمعة من عينيها ، لتشق خدها ،
و ظل وجعها صامدا لم ينحني رغبة منها في التغيير كما اشتهت هي يومها ان يكون .
شعرت بقوة غريبة تجر ساقيها للمضي الى ذلك المكان الذي بات جزءا لا يتجزأ منها.
حاولت عبثا المقاومة لكنها استسلمت لرغبتها و عرجت اخيرا نحو الطريق المؤدي الى البحر.
تقدمت بخطى متثاقلة قرب الشاطئ تتحسس حركة الامواج الصامتة على غير عادتها.
نظرت إلى البحر في حزن نظرة عتاب فانعكس في زرقة عينيها الذابلتين ..
فما كان منه الا ان تراجع منكمشا على نفسه من شدة الخجل من نظراتها وكأن امواجه فقدت القدرة على التمدد،
فاستكانت(الامواج) معلنة اسفها بعد صدمتها الموجعه لها ...
دعكت جبينها بألم .كتمت شهقاتها ..وهي تنتحب على حالها وبؤسها الدائم ..
مالِ هذا الحنين الدفين الذي جعلها لا تبرح المكان و أفقدها طعم الهناء؟.. ..
كم تشعر بالفراغ يسود حياتها ... فراغ كبير كفضاء خارجي تدور فيه كواكب لا حياة فيها ..
اعادت ادراجها الى زمن بعيد حين كانا يأتيان معا هنا. ..
لم يفترقا ابدا.. كانت تتأبط ذراعه تارة و تشد على خصره تارة اخرى و هما يتمايلان على الشاطئ بخطى كلها نشوة و سعادة...
تهمس له خلجات قلبها بنبرة كلها حب و حنان ,
فيرهف السمع ،ويقترب إليها بكل كيانه وقد احنى قامته الطويلة قليلا حتى يبلغ صوتها مشارف أذنيه..
فيبتسم و يشد على خصرها فيرفعها بين يديه محاولا قذفها في مياه البحر مداعبا اياها
وهي التي لم تكن تتقن فن السباحة فتتعالى صرخاتها ممزوجة بقهقهاته الساخرة لجبنها الواضح .
فيعيدها ليقعدها على الرمال بكل حب و يهم هو للقيام بطقوسه اليومية
فيخلع قميصه الصيفي المزركش ليقفز في الماء بطريقة استعراضية و كأنه يريد ان يشد انتباهها لمفاتنه التي زادت من وسامته و رجولته.
كانت تنتظره هي غير بعيدة.. تتابعه بعينين متيمتين به..
لو نظرت اليهما لرأيت انعكاس صورته فيهما..
ودت يومها لو اطبقت اجفانها حتى تحتفظ بتلك الصورة للابد و لا تفتحهما وكأنها تشاهده لآخر مرة يغطس و لا يطفو ابدا فوق سطح البحر!!!
لم يكن ذلك اليوم كسائر الايام و لا البحر نفسه ..ذلك البحر الجميل الهادئ الذي اعتادا ان يستقبلهما بأمواجه المرحبة المتدحرجة شيئا فشيئا لتداعب اقدامهما ...
تذكرت ذلك اليوم و لأول مرة بدا لها ان البحر على غير عادته...
يتراجع بجنون ثم يرسل بامواجه العالية لترتطم بالصخور فتكسر صمودها و صلابتها..
كان حبيبها يسبح بين أمواجه غير آبه بجنونه و صخبه وكأنه يطمئنها عليه ،ويقول لها أن لا تخشى عليه....
لم يكن يدري ان البحر كان يتهيأ ليباغته و ينقض عليه ليغرقه في لججه ...تاركا وراءه قلبا تيتم في ريعان شبابه دون رحمة و لا شفقة.
رب صرخة تعالت يومئذ فمزقت الكون تنادي :"ادركوا حبيبي" لكن هيهات ..هيهات.. لقد قضي الامر كله في ثواني.
هاهو البحر الآن ،و بعد أن مضى على تلك الحادثه ردح من الزمن ،الا انه ما زال غير قادر على الصمود أمام نظراتها ،
وأحيانا يتوارى عنها كلما رآها قادمة إليه ، غير قادر على مواجهتها،هي التي دأبت على المجيء كل صباح وفاء لذكرى حبيبها،
تنظر إلى البحر بحزن دون حقد منها و لا غيض.
انتبهت لخيوط الشمس الخافتة و هي تعلن ساعة المغيب لتستفيق من ذكرياتها و يعيدها رذاذ الامواج المتطاير للواقع.
رسمت ابتسامة حزينة ، وهي تكابر الآلام التي تسري في كل شبر في جسمها
قالت بصوت خفي متألم و قد علت وجهها ابتسامة كئيبة كأنها اعتذار رسمي للبحر...لم تكن السبب يا بحر...لقد سامحتك.
وعم بعدها هدوء الصمت ،الذي أخضع الكلمات لقانونه القاسي .... ليصفعها الخيال بكف الواقع فتعلم حينها أن لكل شيء نهايه فتدرك ان ما حدث كان قضاءا و قدرا.... و انها ستبقى رهينة ذكرياتها الاليمة تنتظر طيفه على مر السنين.
انتهت.