- عبد الله الفهمّان -
بقي يحدِّق في نقطة ٍ ما مجهولة، بين البلاطة و البلاطة المجاورة لها . ثغرةٌ نُكِثتْ ترابها، أرضيةُ المكان لامعة و مشوشة للغاية في خيالهِ حتى أنهُ لم يخطر بباله قط أن يغسلها و يزيل عن سطحها طبقات السُخام المتراكمة منذ فترة طويلة، أي تقريباً في نفس الوقت تلا استلامه لمفاتيح الدكّان من صاحبهِ القديم. جرى بحدقتي رأسهِ يساورهُ قلقٌ غامض خفي ، يقطعهُ بين الحين و الآخر دخولُ زبونٍ أو ردُّ تحية تصلهُ من عابرٍ في الطريق فجأة .
بدا مُحبطاً مستسلماً في الآونة الأخيرة، و رغمَ أنهُ ظلّ يباهي طيلة عمرهِ بقوة بدنهِ و امتلاءِ عضلاتهِ حول عنقهِ و ليونةً في حركاتهِ و التي بالطبع جاءتْ جرّاء تدريبٍ طويل مُرهق، و لكنهُ مُنعش يطويِ صحاف الكآبة و يُفرِد صِحاف التفاؤل، فإنهُ يعيشُ هذه الأيام إحساساً ثقيلاً يغتصبُ عليهِ سعادته و يبثُّ في ذاته الكسل الفارغ.
لا ، لم يشغل باله و لم يعلّق آمالاً كبيرة قط على المستجدات التي تزخرُ بها الحياة، و إنما اكتفى بصرفِ النظر عما يؤسيهِ و ينغِّص جَم أفكارهِ المتقدة كالشمعة و الحادّة كأطراف الحلفاء بتفاصيل مثل : أي مكان أنسب للسهر خلال فصل الشتاء و إلى أي ساعة يجب أن يمتد السَهر؟.
عُلب الطحينية على الرف ناقصة. لا بُد من الإتصال بموزِّع المبيعات لتعويضها. أبو فادي غاضب و مستاء بسبب قسط الإيجار المتأخر عن نهاية الشهر الفائت. السائق جمعة ما زال يُناكِد و لا يسمع الكلام، التاكسي لا يتزحزح عن باب المحل حتى الظهيرة من كل يوم . عليهِ اللعنة و صيبٌ من السماءِ أكبر ..
ثمنُ العيش مكلف ، و عبد الله مقتنع أن العالم لا يتجاوز دكانه ، بل أن العالم دكانٌ كبير. و هو الذي بالذات يعجب حينما يقرأ عناوين أصدقائه الموجودة ضمن تعريف كل واحدٍ منهم لنفسهِ على شبكة التواصل الإجتماعي الزرقاء و المعروفة بوجه الكتاب. فأين مثلاً تقع اسكتلندا؟، و مالذي يهمهُ من معرفةِ موقعها و جغرافيتها هل هي بارزة الجبال كأنفِ جمعة أم سهلة مستوية كقرعةِ أبو فادي ؟ ، طظ ! ، هي بالطبع خارج الدُكان و بالتالي خارج الحساب. و ليس صحيحاً أنهُ سيحددها بمؤشر الهاتف المحمول و يجري بحثاً، فما أبغضَ القراءة و ما أضيقَ أفق المثقفين !. ظنّكم خاب يا جماعة، فحالُ عبد الله الذي رأسهُ بحجمِ طنجرة التيفال الفضيّة المُحكمة الإغلاق مُغاير لما تعتقدون و لما تشتهون. و لعل بعض الناس يعتقدُ بصورةٍ لا جدال فيها و لا نقاش ، كونكَ شخصٌ ذو فهمٍ و يُعتمد عليك ، علاقة ذلك باتساعِ جبهتك و الفرقُ في المسافةِ بين مفرقِ عينكَ و مطلعِ غُرّتكَ. و عبد الله واسعٌ في كل شيء إلا في جانب الفهم، عيناهُ واسعتان و فمهُ هابطٌ بارتخاءٍ لدن. أذناهُ مُشرعتان كدلفتي نافذة، أما ثقوب أنفه فتثيرُ الضحك و سخرية المتندرين .. ها ها ها !
و في آخرِ الليل ينطلقُ على سجيتهِ بلا حشمةٍ أو اتزان ، يمارسُ أسوأ العادات و يتمرّغ بأقذر الأفعال. يفعلُ كل ذلك بشجاعة و جسارة الذي ما زالَ بمقدوره ِ أن يحتملَ حُب الحياة العادية كأفضل الإحتمالات الميسورة ، فقد كفَّ عن الأحلام الطاهرة منذ زمنٍ طويل ..