مضت أشهر كثيرة منذ أن غادرتنا ( أم خالد ) ، قد سكنت فيها النفوس وتعايشت مع المصيبة ، واعتاد أبنائي نسبيا غياب الأم وبدؤوا يتأقلمون مع حياة جديدة . فابنتي سوسن وولداي خالد ويحيى قد انتظموا في مدارسهم لسنة جديدة ، وأصبح البيت يخلو فترة الصباح تماما ، حيث يغادر الجميع كل إلى مدرسته وأنا بدوري أغادر إلى عملي .
عملي سهل ميسّر ، فقد رزقني الله بموظف صادق أمين مخلص قد أسلمته متجر البقالة الكبير ، ولكن هذا لا يمنعني من الذهاب لقضاء سويعات يوميا في المتجر أتابع وأساعد وأراقب وأترك فسحة لسعيد كي يرتاح أو يذهب للغداء مع زوجه وأطفاله ، خصوصا وأن المتجر قريب جدا من بيتي .
وقد لاحظت أنه وبعد أشهر من وفاة (أم خالد ) ازدادت شريحة معينة من زبائن المتجر ، شريحة تروق لي خدمتها ، والحديث إليها يدغدغ أحاسيس يشتهيها كل من ألف الرفيق والصاحب وفارقه وهو في أبهى اشتياق . إنها شريحة المطلقات والأرامل ( على قولة المثل : نفسي فيه و كِخّي عليه ) ، لكني وحتى اللحظة لم تزد أحاديثي تلك عن (التسامر البريء ) حسب توصيف إحداهن .
أم شوشو جارتي تتعمد قرع الباب كل يوم ، بعد أن يغادر زوجها وأبناؤها ، وبعد مغادرة أبنائي كذلك . عادتها القديمة هي ذاتها ، لا تقدر أن تجلس في البيت قبل أن تتناول بعض اللحوم .
- يا أم شوشو يا جارتنا .. أنا أبو خالد ... أما أم خالد فقد ماتت .
- أعلم .. لكنك مثل أخي .. والله إني أعتبرك مثل أخي .. طمني عنك وعن الأولاد .
وبخفة ودهاء .. تحيل كل إجابة من إجاباتي إلى لحم جديد جاهز للإلتهام . لحم ميت .
مرة جربت أن ألتزم بكلمتين فقط . الحمد لله . فتسأل وأقول (الحمد لله ) . فأجابت .. هذا أنت يا أخي أبو خالد .. رجل مؤمن تحمد الله ، لست مثل أبو إسماعين ( ما غيره ) وأم إسماعين اللذان لا يحمدان الله أبدا ، فقد رزقهما الله من واسع علمه عربة (كبدة) لكنهما يدعيان الفقر دوما ، ((والولية أم اسماعين ربنا وحده بيعرف قد إيه هي سمّاوِيَّة و..... )) وتبدأ في التهام اللحم الحرام .
-------------
في المتجر ، صرت شيئا فشيئا أنشغل أكثر بحديث الزبونات ، وألتفت أكثر وأكثر إلى دلع ومسكنة وأناقة وبراءة وطيبة وهدوء وحسن معشر كل منهن .
وببساطة ، لو صدقت ما قلن لأعلنت التبرؤ من جنس ( الذكور ) آباء وأزواج وحتى أبناء ، فلن يكون بعد افتراءاتهن من مفخرة في أن يكون الإنسان ذكرا بحال من الأحوال .
فسميحة مثلا قد طلقها زوجها لأنه سادي ويتصرف ( بقباحة ) ، وفاتن هي من لا ترضى البقاء على ذمة (خلبوص) ، أما أم وديع فأبو وديع كان يأخذ منها راتبها غصبا .
وقمر لأنها ( قمر ) فإن أباها يقيد حقها في أن (ترى الشمس ) بعد وفاة زوجها مخافة كلام الناس ، وأم حسن تعاني الأمرّين مع أعمام حسن وتفكِّر جديا أن تترك (حسن ) عندهم إن يسّر الله لها ( العَدَل ) من جديد .
أحاديث كثيرة ، لو سردتها لطال الكلام . وفضح للستور بسبب وبغير سبب . وكذب وتدليس وافتراء وبهتان .
الخلاصة : كم هو جميل أن نكون أجمل ، وكم هو بشع أن نكون بشعين ونتجمل