الصيف زهر وإشراق وجمال .. فهو امتداد طبيعي للربيع .. تأتلق فيه الخضرة وتتنوع الفاكهة ، ويستحيل سوق الفاكهة إلى بانوراما ألوان جميلة وساحرة تشتهيها الأنفس ، وتلذ بها الأعين ، وتنتعش لها القلوب .
ومنذ أن وعيت على الدنيا .. فإن معشوقي الأبرز من الفاكهة هو أكبرها على الإطلاق .. شأني في ذلك شأن بقية الصبية .. إلى أن حدث معي ما أحال عشقي رعبا ومهابة .
فقد حدث ذات نهار أن عاد أبي - رحمه الله تعالى - إلينا ببطيخة عظيمة ، في منتصف موسم البطيخ .. وفي منتصف الموسم تلذ الثمار وتطيب ، ويكتمل النضج بلا زيادة ولا نقصان . ففي النقصان قلة حلاة وبهوت لون ، وفي الزيادة بعض ذبول وأفول .
لكن أبي لم يقم - جريا على عادته - باعتماد البطيخة مع الجبنة البلدية كوجبة غداء رسمية لذلك اليوم ، بل نحاها جانبا لأنه كان يضمر تقديمها كبعض واجب ضيافة لزائر في المساء . وهذا ما كنت أجهله .
أكلنا ما تيسر من غداء .. ذهلت عنه بتعلق عيني وعقلي ومعدتي بالبطيخة الرابضة في المطبخ تنتظر السكين لتشقها ، ثم ذهب والدي ليأخذ قيلولته ، تبعته أمي ، وذهب إخوتي كل لشأنه ودرسه . وبقيت وحدي أناظرها .
لا أطيق صبرا لمرآك دون أن أشرب من دمك
لا أطيق صبرا لمرآك دون أن أجزك بسكيني وأشطرك شطرين
ولكن ...
ولكني لم أكن آنذاك قد حصلت على الرخصة القانونية لقيادة السكاكين في البطيخ . ورغم ذلك فإن هذا لن يردعني .
فكما أن فتية كثيرا قد سرقوا مفاتيح مركبات آبائهم لقيادة مركباتهم دون علمهم ودون ترخيص قانوني ، فإني سأقود سكينا في تلك البطيخة .
على الأقل .. لن ينجم عن ذلك حادث يودي بحياة أو يتسبب في عاهة .
على الأقل .. لن أتسبب بخسارة المركبة كما فعل ابن جارنا الذي أسقط المركبة في الوادي لكنه قفز منها في اللحظة الأخيرة .
أمسكت السكين .. كان لامعا حادا ، أدرته باحتراف في يدي ليصبح في وضعية الطعن . وكمرتكب لأبشع الجرائم وبكل لهفة للدم الأحمر توجهت بضربة غادرة .
أصابت ضربتي قلب البطيخة مباشرة .. الصوت يشي بالكثير من الاحمرار . حركت السكين للأسفل قليلا فانفجر ضوء مبهر من داخل البطيخة .
لااااا
لم يكن أحمرا قانيا .. بل كان ضوءا ذهبيا لامعا مشعا كالشمس وضّاءََ
**********
كانت الساعة تناهز الثانية والنصف ، وكان أهل البيت بين نائم ومنهمك في درسه ، عندما صدر ذلك الضوء الأخّاذ .. عجيب وغريب هذا الضوء ، جعلني أقترب باحثا عن مصدره فاقتربت باحثا عن مصدره .. وكنت كلما اقتربت كلما اختفى أكثر مصدر الضوء .
حتى إذا ماصرت ملاصقا تقريبا لشق البطيخة ، وإذا بها تنتفخ وتفغر (شقها) وتبتلعني .
**********
في داخل البطيخة وجدتني بدون أية مقدمات . لا أعرف إلى أين أذهب أو كيف أخرج وماذا أصنع . فبدأت المسير على غير هدى ، وكنت كلما عطشت أكلت بعضا من البطيخة ، فإن جعت أكلت مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . واستمررت على ذلك أياما حتى جئت نهرا عظيما ، نقي فرات عذب . شربت وارتويت ، ووجدت جملة صيادين يعتاشون على صيد النهر ، حدثتهم فوجدتهم يتحدثون العربية ( الحمد لله ، فالبطيخة لم تكن مستوردة ) .
سألتهم عن الطريق وكيف الخروج .. فأجابوني أن لا سبيل للخروج إلا بالحصول على المفتاح ، والمفتاح يوجد مع قوم يعيشون على ضفة النهر الأخرى ، لكنهم قساة غلاظ شداد يأكلون لحم البشر ، لكنهم في ساعة من ساعات الليل لا يقوون على حركة ، وهذه الساعة معلومة عندنا لكننا مع ذلك نخشاهم .
ولما كنت محتاجا للخروج وللحصول على المفتاح ، فقد قررت الذهاب هناك في الساعة التي أقدر فيها على الحركة ولا يقدرون ، وهذا ما حصل ..
ذهبت إلى النهر .. وركبت القارب واقتربت من الضفة الأخرى ، حتى إذا ما حانت تلك الساعة خرجت من الماء إلى الأرض ..وبدأت أتنقل بسرعة .. رأيت جماعات منهم كانهم مخدرون . ينظرون إليّ ولكنهم لا يتحركون .. قفزت من بينهم .. وجست كل ديارهم ، وعيني وقلبي وكل حواسي تعمل على استغلال كل دقيقة كي أظفر بمرادي .
بحثت تحت فراشهم ، في أكواخهم وبيوتهم ، في بيت زعيمهم .. دخلت على نسائهم ، ورأيت رجالهم وأطفالهم . أحرك الرجال والنساء والولدان باحثا تحت كل منهم .. لكن عبثا ودون جدوى .
ولكني لم أيأس .. فلا يزال لدي بعض الوقت ، فقط عليّ أن أتحرك بسرعة أكبر .. من كوخ لمعبد لبيت .. أتنقل ..
وفجأة
أردت أن أمر فوقه دون أن أراه . لكنه أمسك بي عوض أن أمسك أنا بالمفتاح .
إنه فخ نصبه أولئك القوم . فخ يصطادون به المتطفلين في ساعة استكانتهم .
حفرة اعتمدوها وصنعوها بين أكواخهم ، وغطوها باحتراف فخدعتني . ووقعت بالحفرة .
****************
ويليييييييي .. ماذا أصنع الآن .. الحفرة عميقة .. كيف سأتسلق خارجا .. لم يتبق وقت طويل .. سيستفيقون ويمسكون بي .
حاولت جاهدا الخروج ، لكن عبثا .. فقوام البطيخة ينكسر بين يدي كلما حاولت الارتقاء عليه . ياااااه ، كم أتمنى أن يتوفر معي حبل الآن ، كي أرميه خارجا لعلهينعقد بشيء صلب أو شجرة ، فأنعتق
هذا حبل .. نعم .. حبل متدل .. كيف لم أره قبل الآن .. يا سلام .. سأصعد عليه وبسرعة ، قد قاربت على الانتهاء والخروج .. ما هذه الأيادي البشعة التي أمسكتني وجذبتني للخارج !!!
****************
إنها أياديهم .. قد انتهت ساعة خمولهم ، وعاد إليهم نشاطهم .. وجوعهم على ما يبدو .
يظهر أني سأكون وليمتهم هذه الليلة .. الكل طرب فرح ، وعيناي تدوران من الخوف .
الكبار والصغار .. الرجال والنساء .. الكل مبتهج بي .. إلا أنا .. أبكي رعبا وخوفا .
أخذوني إلى ساحة البلدة .. علقوني أمام النار الكبيرة على خشبات كالصليب .. ويلي .. سأنتهي حرقا ..
نظرت أمام النار الكبيرة وإذا بالمفتاح معلق هناك .. يا لغبائي .. المفتاح كان أمامي طوال الوقت وأنا رحت أبحث في أماكن أخرى
جاءت بعض الفتيات .. إنهن يضعن عليّ (سوائل) مختلفة ، آآآآه .. من طعمها تبين أنها بعض توابل . خنقنني بالفلفل والبهار .. لم يراعين حشمة ولا وقارا وهن (يبهِّرن ) كل مساحات جسدي .
أضرموا نارا .. أو لعله لهيب التوابل الحرّيقة .. لست أدري .. فقط اختلطت عليّ الأمور .. وأصبحت نهايتي وشيكة .
آآآآآي .. بدؤوا يأكلون قدمي .. من هذا ؟؟؟؟ إنه ولد صغير من أولادهم .. تبا له .. إنه يعض بقوة ولا أملك له دفعا .. أنا مقيد .. ولو كنت غير مقيد لأوسعته ضربا ، فهي بالنهاية ميتة واحدة .
أيها المجرم .. دعني حتى أموت ثم كل براحتك .. بالهناء والشفاء لكن ليس الآن .. هذا مؤلم للغاية ..
كم هو مؤلم .. آآآآآه .
*****************
سوسو .. أووووووه .. هذا أنت ..
قد أوجعتني يا سوسو .. لكني سعيد بهذا الألم .
لقد اتضح أن سوسو ( أختي الصغيرة التي تحبو والتي قد ظهرت لها أسنان حديثا هي من يعضني في قدمي ، كما اتضح أني كنت قد غفوت بعد الطعام وأنا أنظر للبطيخة وأحلم بها .
يومها مساء .. قدّم أبي البطيخة أمام ضيفنا ، وبعد أن عاد ما بقي منها للداخل .. نفرت منه .. ومنها .. ونفرت من البطيخ حتى اليوم .