أمٌّ واحدة.. أمٌّ متعددة
هاتفتكِ وأخبرتكِ بأنها تحمل إليكِ أخباراً عن والدتك، وحددتما موعداً للقاء.
قالت لكِ منذ اللحظة الأولى:
ـ كانت والدتك متعددة، وكان والدك واحداً. وصعب عليه اللحاق بها. أما توحيدها، فبدا كحلم توحيد بطون القارات جمعاء.
وعندما غادرتما جلستكما تحت المظلة بالقرب من البحر، ودلفتما إلى الغابة كثيفة الأشجار، منسقة النباتات، الخاضعة دوماً للمراقبة والتنظيف، التفتت نحوك وأنتما تتمشيان تحت ظلال الأشجار وقالت مستنكرة:
ـ أنتِ يا هذه! أما مللتِ الحفر عن الجذور؟!..
جذور دقّت حتى كادت تذوب بين حبّات الثرى، تحت وطأة الزمن، وتغيير سفينة التقدم لوجهتها بين سائر القارات؟!..
ـ هل لديكِ فعلا أخبار عن والدتي؟
ـ لكم أنتِ متسرعة للوقوف على حقيقة ما جرى!!
ـ أكثر مما تتصورين! فهاتِ، أنقذيني بما لديْك أيتها العزيزة..
متى التقيتِ والدتي؟ وكيف كانت عندما فارقتِها؟ وإلى أين توجهت؟
وهل غادر والدي معها المكان؟ وكيف كان حاله، هو أيضاً؟
وهل تعرّفتِ عليهما عن قرب؟ أم أنك خالطتِ والدتي فقط؟
كانت أمي تحب الحياة كثيراً، وهذا على العكس من أبي الذي كان يغلب عليه الجِدّ والسعي المركّز للوصول إلى شيء مّا..
ـ أنتِ، الأولى بكِ أن تساليني أنا عمّن أكون أولا؟
ثم ما نوع العلاقة التي تربطني بوالديْك معاً، والعلاقة المتميّزة التي كانت لي مع والدتك؟
في تلك اللحظة، رنَّ جرس هاتفها الذي قامت بإخراجه من حقيبتها اليدوية، وتأملت في أيقونة المتصل، ثم اعتذرت وأجابت بكلمتين اثنتين:
ـ قادمة حالا!
ثم التفتت نحوك وهي تسارع لمغادرتك وتقول وسط أسنانها المطبقة تماماً:
ـ اسمعيني جيّداً.. أنا اسمي سارة.. وأنا يهودية الانتماء، ولكنني لست مطبِّقة..
وجمعتني بأمك مصادفة تحوّلت إلى تاريخ..
وكان بيتي له نوره الساطع قبل أن ترتفع منارة أسرتك بجوارنا..
كسف نوركم سائر الأضواء.. فتحالفت ضدها الأيدي..
والدتك انتشرت لها صورة واحدة.. فمُزقت إلى قطع تفوق العشرين..
صارت متعددة، وصار لكل وجه من وجوهها قناعه..
احتار والدك..
لم ييأس، وهذه عُدَّت فضيلته..
طاردها في كل مكان..
كنتم أنتم لا ترون منها إلا سطح البحيرة الهادئة..
بحيرة الشعراء..
كانت هي تقوم على جملة براكين..
وكانت كل الأيدي المتآمرة تحاول جاهدة حفز تلك الجبال الفوّارة على الانفجار..
أخيراً، كان تفجير، وانتشر دمار، لكن والدتك اختفت، ووالدك وحده تبعها..
وأرجو أن تكوني ساذجة، ساذجــــة! (مططتها ولاكتها وقهقهت ثم تابعت هازئة بادية الاستخفاف) وتخبريني عن مكان تواجدها،
إذا حدث وتمّ بينها وبينكِ أدنى اتصال..
أقول لكِ هذا، لأننا سنعلم بكل التفاصيل، سواء أأتت المبادرة منكِ أم لم تأت!!..
رفعت يسراها ترميك بتحية وداع في الفضاء، وتبتعد عنكِ مسرعة وهي تقول ضاحكة ساخرة:
ـ هل فهمتِ الآن؟!
ثم أضافت مبتسمة:
ـ لا عليكِ.. فسأعاود الاتصال بك مرة أخرى.. في وقت لاحق...
تسمّرتِ في مكانك، وكأنما قوّة صحن فضائي حلت فوق رأسك وجمّدت فيك كل حركة..
ثم انجلى الضباب عن رؤيتك، واتضح لكِ خط فهمٍ وسبيل منجاة..
وما عتمتِ أن قلتِ،
رافعة صوتك في وجه سارة والعالم كله وراءَها،
تخاطبين أمّك التي تعدّدت صورُها، وتماوجَ وجهُها، فصار عسير الضبط والتدقيق:
ـ أنتِ.. أيا أمّاه! أنتِ مجرّد صدى لصرخاتٍ قديمة!!