الفرصة الوحيدة
لا يتصور ضحاه بدون قهوة، ولا أصيله بدون شاي.
أما هي، فتنأى بنفسها عنهما جهد الإمكان،
وإن كانت تلم بهما أو بأحدهما حسب ظروف الزمان والمكان.
قامت وتمددت على أريكتها، قرنفلية اللون، المفضلة لديها، وهاتفته قائلة:
ـ صباح الخير يا "بو ضحكة جنان"!
ـ صباح النور يا "بهية" منيرة سائر الأكوان!
ـ أين أنت الآن؟ وما الذي تفعله حالياً؟ وما مشروعك لهذا النهار؟
ـ دعيني آخذ ورقة لأسجل فيها أسئلتك المتهاطلة حتى لا أتخطى أحدها في الجواب!
سمع قهقهتها المشحونة بحب كل دواعي الحياة،
والشغف بها،
والإقبال عليها،
ثم جاء صوتها الرقيق يتقطر في أذنه عذوبة تذيبه في مكانه،
وتخدّر أطرافه،
وتكاد تشل حواسه عن كل حركة أو فعل:
ـ ماذا تفعل الآن؟
ـ أقرأ، لأكتب بعد ذلك، إن خطر من الكتابة شيء بالبال.
ـ اسمع! إذا فرغتَ، فإني أدعوك إلى جولة بجانب البحر.. ما رأيك؟
قال في نفسه: "وهل لكِ غير البحر من خوارق الطبيعة شيء آخر تدعينني إليه؟"
كان يدرك تعلقها العظيم برؤية البحر،
ومهاجسته،
وكأنه شخص آخر يستمع إليها،
ويتحمل شكواها ولوعتها وأساها،
ويشاركها فرحتها وضحكتها وقهقاتها،
وتبتسم، فيبتسم لها،
وتغضب، فيردّ موجه المتعالي الصاخب متضامناً مع غضباتها..
كان يعلم ذلك كله، فردّ عليها سريعاً:
ـ لا مانع لديّ.. سأتصل بكِ بعد حين..
ـ باي، حبيبي!
ـ بايْ باي، قرة عيني!
*****
كان هذا هو كل الكلام المفهوم الذي يقرأه الواقف على تحاورهما.
أما بعده،
فقد فتح كتاباً،
سرعان ما انتقل منه إلى غيره،
فإلى ثالث،
فدورية،
وموسوعة،
ثم إبحار في فضاء الإنترنت الذي لا حد له ولا نهاية،
قبل أن يعود فيفتح دفتر تدوينه،
ويقبل على كتابة ما قد يَفهَمُ منه كل قارئ ما يود أن يفهمه.
*****
أتت الحروف متتابعة.. يتقدمها الألف.. يتوارى وراءه حرف الباء..
كان الألف حقاً في ضخامة جبل قاف.. في لحظة بدا وكأنما هو وارى الحروف جميعها..
من ثمّ، صار الحديث معه نائباً عن الحديث معها..
في وقت من الأوقات، راح الألف يرفع صوته في كل مكان: أنا الحروف كلها!!..
تجمّعت الحروف وراء ظهر قائدها،
المنتزِع عنوة صكّ النيابة عنها..
سرت فيما بينها وشوشة..
من نصّب هذا علينا؟
ألم يكن من قبل حرفاً نحيلا ينتظر دوره بيننا؟
كيف انقلب الحال وصار ما صاره الآن هنا،
وهناك،
وفي كل بطن وواد من الدنيا؟!
ارتفع فوق رؤوسهم نفير بوق من أبواق الألف،
يذكرهم قائلا بكل ضجيج العالم وبهرجته:
ـ فإنما أنتم لستم بدعاً،
ولا ألسنتكم تقع خارج ما جاء به لسان الروح القدس،
واصفاً من ماثلكم من أسلاف أزمنتكم الغابرة،
عندما قال أولئك أيضاً مستنكرين:
" أليس هذا ابن النجار"؟!!...
لم يبال أحد بقول هذا المثبّط للعزائم،
فهم يدركون أنه من حملة "الإسفنجة" والمسّاحة، الحريصين على تلميع الطاولة،
ساترين الستر كله ما يمور تحتها من إخلالات وتشوهات..
وانتشرت همهمة أخرى تقول: فإنما نحن من كان السبب في ذلك كله؟..
صَمْتُنا.. تزلفنا.. خنوعنا..
وما صبغنا به حركاتنا وسكناتنا من نفاق..
تلك بعض المطايا التي اعتلاها ألفنا
حتى صار يدّعي أنه رب الأوطان والرقاب طرّاً،
وسيد السيدات والسادة أجمعين..
ثم دبّت في الصفوف حركة،
تلتها حركة،
تبعتها حركات..
فكان حِراكٌ..
وكان ما كان مما قَصُرَتْ معه قامة الألف،
ونَحَلَ عوده،
حتى لصار يجري وراء الحروف جميعها وهو يصرخ ويولول:
ـ أعيدوني إلى مكاني الأول بينكم،
وخذوا كلّ ما استحوذتُ عليه مما كان لكم من أموال،
وأزيدُ عليه سائر ما وفَّرته وراء أعناقكم من نوال!!
ومن وسط السُّحُب، صرخ صوتٌ كالرعد القاصف:
ـ هيهات، هيهات!!
في لحظة من اللحظات، قد تتعدد الفرص، فتخلف الواحدة منها الأخرى..
لكن الحذار الحذار!
ففي أحيان كثيرة،
لا تُتَاح للمرء سوى فرصة وحيدة لا أكثر،
فإن هو أهدرها،
فهو كمن سقى رمال الصحراء بما استقاه وخزّنه من ماء!!
*****
تابعتْ بكل انتباه ما قرأه عليها مما أملاه عليه خياله،
مستقى من واقع وطنه الممتد،
ثم قالت وهي تمد يدها وتشير بأصبعها للطيور البيضاء المحلقة والمنقضّة على سطح البحر،
تلتقط غذاءها كلما عنّ لها ذلك،
أو غازلها السمك بالقرب من سطح المحيط:
ـ لكأني بك تعني بهذه القصة حالنا،
رغم إشارتك الظاهرة إلى غيره من الأحوال.
طارد بعينيه الطيور المحلقة ثم الرامحة كالنسور البواشق والعقبان الكواسر،
والمسخرة للمخالب والمنقار الطويل لحيازة الصيد الثمين،
ثم التفت نحوها وقال، والكلمات تفر من لسانه كمتزحلقي جبال الثلج السميك:
ـ أنتِ وأنا، الفرصة العظمى، في مجال الاقتران، أحدنا للآخر..
فإن هي وَلَّتْ،
فلنقرأ على أوقات لقائنا السلام.