حاملا معطفه الأسود بين يديه عيناه الذابلتين لم تفارقا الأرض كان مهموما يترنح يمنة وشمالا عبراته الدافئة تحتضن مأساته تحاول أن تخفف عنه ذاك الحمل الثقيل دموعه المسبلة على خديه تروي لك حزنا إفترش
ثوبه الأسود أصبح كالظل لا يفارقه أبدا أهاته ترتحل لحظة ثم ترجع شارد الذهن يمشي بلا عقل يرفع رأسه حينا ثم يخفضه حينا أخر كأنه يبعث برسائل إلى السماء عسى تأتيه بعض الأجوبة عن أسئلة شغلت باله دوما ...
لماذا أنا هكذا ؟
لماذا يحصل هذا لي؟
لا ادري لما الحياة دوما قاسية معي؟
تنهد تنهيدة طويلة ثم تابع سيره كان الليل مسدلا خيوطه الداكنة في وحشة قاتلة ظلام عم المكان لا يوجد سوى نور ذاك القمر المطل وراء تلك الغيمة الكبيرة تجاورها نجوم تلألأ ضياؤها هدوء صامت يفتح بين طياته
صفحات الذكريات المؤلمة...
كان رائد شابا في الثلاثينات من عمره فتح عينيه الصغيرتين بهذه الدنيا ليلبس صفة اليتم مبكرا فوالده توفي يوم ولادته في حادث سير فلهفته لرؤية ولده وهو الذي يغيب عن زوجته كثيرا بحكم عمله في الجيش و
أشواقه التي داعبت وجنتيه لم تشفع له فسرق له الموت تلك البسمة التي كانت سترتسم على شفتيه فأبدله عنها رحيلا بلا رجعة هذا الأمر ترك فراغا كبيرا في قلب الأم و إبنها حيث عاشا على وقع وضع مؤلم وحياة
حملت معاني القسوة والألم..
حاولت الأم أن تعمل ما بوسعها كي تعوض رائد ذاك الغياب الأبوي فلعبت الدورين معا تخفي عليه دوما تلك الدموع التي أسكبت شلالا تشد إليها وسادتها القطنية تحتضنها بحرقة لامست جفنيها جسمها الهزيل الذي ذابت
روحه بتوالي السنين قد أضعف نظرها لتلتحف تلك الحصيرة الرثة فالفقر كان ضيفا غير مرحب به بذاك البيت لكن ما في اليد حيلة ...
أشواك الحياة قد إمتدت أغصانها الطويلة لتملأ تلك الجدران باهتة اللون تميل إلى السواد تحتضن بين أكفها قصة مأساة عميقة أتى رائد من مدرسته والحسرة بادية على محياه أمه كانت تعد بعض الطعام
الذي ألف أن يجده دوما تركت الصحن من يدها تأملت فيه جيدا ثم قالت له :"ماذا هناك..أخبرني"
قال لها والدموع تترقرق من عينيه :" هل الفقر عيب يا أمي قتلتني تلك النظرات التي يراني بها زملائي وحتى معلمتي لم أعد أطيق صبرا آآآآه من هذه الحياة "
أمسكت بيديه الباردتين وقربته إلى صدرها صامتة بلا كلام تحاول كبح عبراتها التي خنقتها لتهمس في أذنه " لا عليك أنت أجمل ولد والمحبب لدي لا تقلق من تلك العيون الظالمة"
كانت لتلك الكلمات وقع على قلب رائد أحس بها كبلسم أزاح عنه تلك الحسرة دخل إلى غرفته ورسم على نافذته طائرا حزينا كبلته تلك القيود يحاول التخلص منها حتى يستنشق حرية غابت عنه ..
تعاقبت الأيام بليلها ونهارها تعتصر كأس المرارة التي عنونت صفحتها الهشة ذكريات تأبى النسيان سطورها القاتمة بنت بأسفل حواشيها لحظات لا تنسى
كبر رائد لتكبر معه أحلام كان يكتبها بدفتره الصغير ككل حالم أيقظت الظلمة بصيرته فهو منذ صغره تعلم أشياءا كثيرة ألهمته ليصنع لنفسه وزنا وسط تلك الأوراق الكثيرة
التي دونت إسمها بين الركام إجتهد في دراسته رغم المعاناة زاحم زملاءه الذين كانوا يستهزؤون منه بقهقهاتهم المتكررة
إحتقروا صوته و رأيه كلمات أمه جعل منها ترياقا يرتشف منه كل صباح ...لكن الأيام خبأت بين جنبيها خبرا غير سار كان يتسلل بهمس على أهداب شموعه الخافتة ...
أحست أمه في تلك الليلة ببعض التعب بينما كانت تعد له قهوة التي يحب أن يستمتع بها بينما هو يكتب كتاباته التي لاقت رواجا كبيرا
نظرا لأنها تحمل قيما ومعاني خلقت من رحم الأسى فأشعلت بين حروفها دفء الروح وشذا القلم الذي يأخذ قارئه لعالم أخر يحسسه بأنه جزء منها،
وبينما هو منشغل بالكتابة إذ بصوت يناديه من بعيد وقف على عجل قد سبقته الخطوات أسرع إلى أمه التي كانت تتصبب عرقا
يديها ترتعشان ولسانها تلعثمت كلماته أمسك بها و أخذها إلى غرفتها أجلسها على مهل ثم أسند ظهرها بتلك الوسادة
قربته إليها لتهمس في أذنه "يبدو أن أيامي باتت معدودة يا ولدي الحبيب لا أريد لك أن تحزن فقد عشت حياة كئيبة لا أريد أن أرى دموعك لا أحتمل أن أرحل و أنت تبكي "
لم تتمالك نفسها شدت طرف قميصه تنازع في لحظاتها الأخيرة كان مشهدا لا يحسد عليه
إحتضنها بشدة كلماته غادرت لم يعد لها وجود سقطت منه الدنيا كلها هكذا شعر أنذاك بريقه غاب ليحل محله الشتات...
أطفئت تلك الشمعة الباقية ليبسط الظلام على أيامه كم صعب عليه أن يهل التراب عليها
كانت يديه ترتجفان عيناه إحمرت من أثر الدموع ترك قبر أمه
ومشى مبعثر القلب يتسأل مع نفسه الجريحة التي لم تعد تقوى على الفراق على الألم بقي وحيدا لا يملك شيئا يتم الحياة تركه كورقة صفراء تتطاير مع الريح يمنة وشمالا بين فراغ بصم صمته القاتل ....
بقلمي مجد الخواطر
09/03/2016