" .. الموعد ... "
..............بقلمي
قادتني قدماي لذلك المقهى الذي يقبع على منخفض من المدينة المطل على شاطئ البحر ، حيث الأمواج الخجلى اللآمتناهية تتلاطم على الحافة الصخرية ، على خلفية سماء صيفية خالية من أي سحب ..
جلست مقابلا مياه البحر .. شاردا .. حائرا .. أنتظر و في قلبي أمل أن لا تأتي .. وجودي هنا ليس مصادفة ، و لكنني لا أعرف لماذا حضرت ؟ و أي رغبة تلك التي جرتني إلى هنا ؟
مر يومان منذ لقائي بها .. بعد خمس سنين من الفراق .. حين صادفتها في شارع حارتنا الحزينة .. تحيط بها هالة من جمال و فتنة .. هادئة و مشرقة .. تماما كأيام البراءة النقية في ذاك الماضي البعيد ..
تساؤلات تتراطم داخلي كموج البحر :
لماذا قبلت رؤيتها مرة أخرى ؟ .. لقد مرت سنين ، و لا بد أنها نسيت وعدها لي ؟ .. ماذا سأقول لها إن سألتني ، عن أيامي في غيابها ؟ .. عن مشاعر ، البعد ، خنقها ؟ يا ليتها لم تكلمني .. و تفتح باب صمتي و كبتي السحيق ..
جلست أتأمل الشمس في مسيرها اليومي و هي تلوح بالغروب .. و منظر البحر و قد بدأت أمواجه تختفي في غياهب الأفق على نغمات أصوات القلة المتواجدين حولي ..
تملكني شعور غريب بالحزن الممزوج ببعض الحنين .. و أسئلة كثيرة تتقافز في خاطري .. إن كانت ستأتي ؟ فأي فستان سترتدي .. و بأي لون ، شفاهها ستغطي ؟ و أي وجه ، هته المرة ، سأبدي .. ؟
نظرت لساعتي ، نصف ساعة و يصل قطار الذكريات .. أصلحت ملبسي و مجلسي .. أرجعت السجائر لجيبي .. و مسحت على شفتي الموحولتين .. و أطلقت العنان لتأملاتي .. بدا لي المكان هادئا .. قلة هنا و هناك .. على طاولة مستديرة و شمعة منيرة يجلس زوج في مقتبل العمر ، غارقين في نقاش مرح .. و في زاوية بعيدة شيخ جليل المظهر ، ناعم الملامح ، يقلب صفحات مجلة ما ، و فنجان القهوى يشاركه القراءة .. أنظر أمامي مباشرة ، امرأة في عقدها الثالث ، تقاسمني أشعة الشمس الخافثة ، و تغلبني في تدخين السجائر ، الواحدة تلو الأخرى ..
أرجعت النادل خائبا مرة أخرى لحين حضور رفيقة طاولتي .. ببنطاله الأسود و قميصه الأبيض الناصع ، و ابتسامة تخلو من الصدق كل مرة يعود إلي فيها .. نفسها تلك الإبتسامة التي كان يقابلني بها شريك والدي ، في كل مرة أقصده طالبا مالا بعد وفاته .. يأخذني بالأحضان و يعدد علي قدر الديون المتراكمة لشركتهما .. الديون التي كان خروجي للعمل الحل الوحيد لسدادها ، و حماية لعائلتي حر سطوة البنوك و غلبتها ..
أشعلت سيجارة أخرى بعدما عادت الذكريات تأجج من توتري ، و تفتح جروحا حسبتها إلتأمت منذ زمن .. زمن الوداع ، على باب المطار ، و أنا أترجاها ألا ترحل ، في يوم مثلج .. بارد .. بجوه .. بمشاعره و ناسه ..
" .. ما هي إلا سنتان و أعود .. أنا أعدك .. " .. كلماتها التي سامرتني و أنا لعودتها في انتظار .. بعد أن صارت السنتان خمسة .. و مرت الأعياد خلسة .. بعيدة عني في بلاد أخرى .. لٱستكمال الدراسة ..
أنا لم أخبرها يوما بحالي و مآلي .. فلم أحب أن أشغل بالها بي ، و وقوفا عند رغبة والدها .. عمي .. و شريك والدي كذلك .. لكن نظراتها المعاتبة و هي تطلب لقائي ، تفشي أشياء كثيرة ..
مرت نصف ساعة .. قصيرة ، خاطفة .. لم أكن أتوقع أن تستفيق بها عوالم كنت أظنها منسية .. تحسست قلبي الذي انتفض داخل قفصه .. تسارعت دقاته .. تخبط .. فدفع بشراييني موجة دماء ساخنة .. حارقة .. غامرة بالدموع ..
ظهر النادل أمامي حاملا إصرارا لكي أطلب شيئا حين لفت نظري دخول شابة جميلة .. مديدة القامة .. بفستان أبيض و خطوط ذهبية .. حاملة حقيبة سوداء جلدية ..
خطت نحوي مقتربة بتردد .. وقفت جامدا بمكاني .. خطوات قليلة تفصلنا ، و سنين من صمت .. أطالت النظر بعيني المرتخيتين و كأنها تحس بخفقات قلبي المتسارعة .. نطقت و نطقت .. فابتسمت و النادل يسحب لها الكرسي وهو يبادلها كلمات الأدب و اللياقة .. رجعت لمكاني بعد أن عاد هذا الأخير لأشغاله ..
هنا .. صار كل شيء غريبا .. أضواء المقهى تتألق مشتعلة باهرة .. و ريح منعشة هبت من البحر ، استنشقت منها ما استطعت من هواء عليل أرج بعطرها الشدي ..
ابتسمت و هي تبادرني بأول حركة على رقعة شطرنج الأحاسيس التي أخفى غبار الزمن ملامحها ..
" لقد مر زمن طويل .. أليس كذلك .. ! "
أتمنى أن تعجبكم هذه القصة فهي بمتابة جزء من ثلاثية كان جزؤها الأول بعنوان " ثقي بي .. إن الصمت أرحم "
هنا سأضع رابطا للقصة لمن يريد إعادة قراءتها ..