ثمة أشياء تحدث للمرء على حين غرة لم يكن له فيها رأي أو خيار ، كمثل ذلك اليوم الذي ساقته فيه قدماه الى شاطئ البحر
الذي طالما عشقه....
عشق صفحات رماله الذهبيه ...
عشق صخبه و جنونه نهارا و هدوؤه و سكونه ووحشته ليلا...
هناك حين كان يفترش شاطئه محاولا كسر وحدته و محادثته بصمت شاكيا اليه قسوة الزمان والإنسان...
و لو رايت المشهد لأجزمت ان كلاهما يشعر بالآخر من فرط الألفة ...
يتجلى ذلك في اهتزاز الامواج طربا لقدوم عاشقها (صاحبنا) و في تطاير رذاذه باردا و منعشا لحظة أعتناقها بصخور الشاطئ فتغرق وجهه فتشعره بالنشوة.
جلس على الرمال ويداه تمسكان أداة صيد اعتادت مرافقته الى المكان لأداء موهبة طالما عشقها بشغف (الصيد) وفي حناياه الكثير مما كان يود البوح به للبحر...
وهو على تلك فإذا به يسمع صوت بكاء هادئ وعبرات مختنقة يقطعها نشيج وجع....
بكاء مر بصوت انثوي شجي...
تجمدت يداي عن الآلة التي كان ممسكا بها ورئتاه عن التنفس وراحت عيناه تبحثان عن مصدر البكاء ...
انقطعت حبال تفكيره وتلعثمت كلماته التي كان يناجي بها البحر...
كانت السماء صافية يتوسطها القمر بكماله و كان الصمت مخيما على الكون كله حتى البحر كان هادئا هدوءا غريبا وكأنه تجمد كصاحبه وأصاغ بسمعه نحو مصدر البكاء ....
مضت ساعة أو تزيد..... تباطأت نوبة البكاء..... وأخذت تلملم ماتبقى من دموعها فوق خديها وتشهق بقوة لتسترد أنفاسها وبعضا من آهاتها...
رآها و قد قامت بتثاقل تجر جسدا أعياه الألم والأنكسار وروحا أتعبها الوجع حد الأحتضار تحركت نحوه....
تسمرفي مكانه كقطعة خشبية ركنت في زاوية ما.... لا تحب الحراك...
إقتربت منه اكثر فاكثر ...تعرف عليها...زالت دهشته ...
مد يده برفق ليساعدها على الجلوس و دقات قلبه المتسارعه تكاد تخترق صمت الحوار الذي اختصرته نظرة واحدة لبعضيهما
فتساءلت هل حقا لازال يملك البلسم الذي بوسعه ازالة ندبات الآهات و هو الذي عبث بمشاعرها و رحل ..
طبع ابتسامة على وجهه لا تدري هي ان كانت من باب الشفقة عليها أم انه لا يزال يتقمص دور المحب باتقان...
دنا منها بتودد ألفته من عهد مضى و سألها:هل انت بخير ...اشتقت اليك حبيبتي...
رغم انها كانت تبادله نفس الشعور و كان قلبها يردد:أحبك الا انها في لحظة عقلانية قالت: الحب في عالمكم ملوث يا عزيزي..
عقيم لن ينبت شيئ منه و لن يزهر...
قال لها: ظننتك سترحبين بحبي كيف ما كان و أينما كان ..و لن تضيقي بي ذرعا ...
أردفت قائلة:نفاقات البشر شوشت ذاكرتي ..وغبار تفاهاتهم غطى قلبي فأصبح باليا لايصلح لأي جديد...
صرت أخاف من الحب و أكره البعد...
لا أريد أن أتلو على نفسي تعويذات الوجع يوما ما لأجل حبيب ،و لا أريد أن أشتري الوشاح الأبيض بيدي ...
لا أريد التعازي على قلبي و أنا على قيد الحياة ...
ولا أريد أن تهلكني التساؤلات :هـل سيخذلني ثانية و يترككني أحيا على قيد الحزن و العذاب بفقده ...
عزيزي لست مستعدة ليتحرك قلبي شوقا اليك فتحرقني الآهات و لا اريد أن أن أكون بائسة ...
ولا اريد أن تنقلب حياتي الى قطعة قماش أسود...حياة يأسرها الألم فتعلن الآه ....
حسبك دعني أهدأ بعيدة عن الحب.
انتفضت قائمة مودعة و عيناها تذرف دموعا ،كان يتبعها بعينين جاحظتين قلقتين حتى وصلت المياه حد خصرها
توقفت ثم ضمت يداها الى صدرها وأخذت تحادث البحر بصوت مسموع عاتبته ومزحت معه ضحكت ثم بكت ،
خشي أن تكون قد جنت .....
فصاح بها: تعقلي حبيبتي لا تفعلي ....حذاري من امواج البحر فهي غادرة...
إستدارت اليه وفي عينيها إمتزجت مشاعر الذهول والغضب والحسرة وقالت :أمواج البحر أقل غدرا من نفوس البشر.
قال لها و هو يسرع خلفها: هل أساعدك بشئ أو أرافقك لمكان.
قالت: لاتتعب نفسك معي يا حبيبي فأنا أمرأة ليست من هذا العالم... اكملت مسيرتها بعيدا عنه وشفتاها تتمتمان أن وداعا يا حبيبي...
أيقنت الآن أن كل قصص الحب الحقيقية راحلة صوب الانسحاق. ..
توارت عن عينيه...غاصت...هاجت الامواج لتحتضنها و ظل البحر محتفظا بسرها طي الكتمان....