هدية الصفصافة أمِّ الشعور
أشجار الصفصاف أنواع منوَّعة، وشجرتنا نحن منها كانت من نوع أمِّ الشعور.
كانت كقرون ضخمة نابتة في رأس تحت التربة، ثم أطلقت سوالفها في كل اتجاه، فصار تحتها خلوات، وصار لخلواتها رواد، وكنتُ أنا وعبد السميع ممّن انفردوا بخلوة منها صارت لهم بيتاً، وملجأ، وخير ملاذ.
لكم تعالت أصواتنا في حالة الشنآن، ولكم تهامست شفاهنا خلال لحظات الصفاء، والإحساس بالأمن والأمان.
فلما التقيتُ بنجوى، صديقة طفولتي وزميلتي في العمل، حكت لي قصتها مع سوء الحظ الذي ما فتئ يلازمها منذ الصغر؛ فلا أحد استقر في شباكها، رغم أنها تحرص كل يوم على رميها في كل اتجاه!
وكان هذا البوح طعماً ابتلعته بسهولة لسذاجة فيّ دفينة منذ النشأة، فرحتُ أفصّل القول ـ وآه منّي! ـ في علاقتي بالحبيب، زوج المستقبل، وأستفيض فيه، وأوقفها على كل التفاصيل، حتى صارت لكأنها تشهد جلساتنا منذ البدء وحتى النهاية.
ولسذاجتي المفرطة هذه المرة، نقلتُ إلى مسمع "حبيبي" كل تفاصيل حياة صديقتي، ومأساتها التي بدت مزمنة، واقترانها الدائم بالفراغ، والآلام التي تخلفها في النفوس وهي تروي ما تتخبط فيه من ألوان التعاسة والهوان.
وجاءت اللحظة المفصلية التي سيقول فيها القدر كلمته في حقنا نحن الثلاثة.
كنتُ أتجوّل مع صديقتي، فقادتنا خطانا إلى مكان الصفصافة التي كانت تطل على شاطئ نهر دائم الانسياب.
جلسنا في الخلوة التي اعتدتُ أن أجلس فيها مع أليفي عبد السميع.
هنا تلبستني حالة تواجدي معه، فصرت أناجيه بصوت مرتفع أمامها، وأعقّبُ محاولةً تقليد صوته. وكانت هي ـ ويا ويلتي، فلم أنتبه! ـ تتلوّى، وقد ظننتُ ذلك إعجاباً منها وتعبيراً عن نوبة انتشاء بما تسمع وترى. والحق أنها كانت تتمزّق داخلياً تحت مطارق تمثيلي، ولعلها كانت تزداد استغراباً من هذه "الغبية" التي، رغم وضعها، رزقت بمثل هذا الشاب الذي تتحدث عنه، وكأنما هو الجالس بقربها، وليس صديقتها ذات الجرح الغائر والذاكرة المقروحة.
ولم يتوان الدهر، ولم يتهاون في قلب الأوضاع، إذ سرعان ما أطل من بين "شعور" صفصافتنا المدلاة في كل المناحي، وجهُ عبد السميع!
تلك لحظة قد خلت، ولكن، أنّى لي أن أنساها مدى العمر؟!
لقد كان أول لقاء بينهما، وكان بمباركتي.
كنت قنطرة موصلة بين طرفين، ممدودة مطهّمة كبردعة على ظهر أتان.
وبدا أنهما يعرفان كل التفاصيل، أحدهما عن الآخر، من خلال ما رويته لهما، كل على حدة. وسرعان ما اندمجنا نحن الثلاثة في أدوارنا الجديدة، وصرنا كالثالوث المصبوب في قالب واحد!
وكنت في ذلك كله، مسلوبة النظر النقدي، مطمئنة غاية الاطمئنان للحبيب والصديقة؛ فالأول والثانية يقيمان حقاً كلاهما في القلب، قلبي، ولكن في غرفتين متجاورتين، ذواتي حدود متميزة، وليس في غرفة مشتركة، تنعدم فيها سائر الحدود المتعارفة، وترتفع بها كافة المقاييس.
وتعاقبت الاتصالاتُ الأولى بمحضري.
وجاء، في ذات موعد، ما أخّرني عن الوصول. وعندما وصلتُ، اكتشفتُ أن الطرفين الآخرين محلقان في فضاء الحبور، بأجنحة من نور. فيا لبلاهتك، يا بنيّة!
بعدها، وعندما أسترجع ما سبق، لا أملك نفسي فأخاطب شخصي قائلة: "يا حمقاء! حينها، كان عليك أن تتنبهي، وتوقفي كلا منهما عند حدّه! لقد فرّطتِ في حق حبك عليكِ، فأقصيتِ غيرتكِ على قرينك، بل ونفيتها إلى أبعد مدى. فذوقي الآن علقم الغفلة التي كنت بها تتشحين وتتسربلين!!"
وعندما لاحظتُ بداية ازورارٍ من عبد السميع، وصارحته بذلك، كان يتعلل بالتي واللتَيا، ويصرف النظر عن الأمر برمته.
أما صديقتي، فيا لصديقتي! لقد لاحظتُ تورّد خديها، وارتفاع أرنبة أنفها إلى كبد السماء، فهنأتها، متسائلة في نفس الوقت عن حقيقة ما حدث. فكان أن أقبلتْ وأدبرتْ، وكرّت وفرّت، ولم تأتِ بخبر، ولا هي أثارت غباراً أو نشرت عَرْفَ بخور.
وكالتي تكون آخر من يعلم، في حين أن مركزها يحتم عليها أن تكون أولى العالمات بما حدث، صعقني الخبر اليقين في يوم كيوم أحُد عند المسلمين.
فقد قادتني جولتي مجدداً مع صديقتي نجوى إلى الصفصافة أم الشعور، الشاهدة البكماء على مئات المآسي وقصص الغرام، فاقتعدنا حجارتنا المنصوبة، وبعض الجذوع المقطوعة المدفونة إلى المنتصف، واطمأنّ منا القلب والسمع والبصر، في جلستنا تلك المعتادة في كنفها، وبين أغصانها المدلاة.
وبعد لأيٍ، أطلَّ علينا عبد السميع.
اقترب كالقط الوديع،
وقد كشف مع ذلك عن حدةِ أنيابٍ ومَضَاءِ مخالب.
فكان أن مدّ يده نحوي مسلّماً (!)...
وكان أن فتح ذراعيه لها، هي، معانقاً (!!)...
فهل كان ذلك السبب
فيما أصابني بعد
من ذبحة صدرية؟؟