تنتشرُ الجثث البشرية على طولِ النهر، تكتنفُ حوافَ المجرى و تكادُ تمدُّ أرجلها لتبلَّها و تصبغَ الماء باللون الأحمر. تقفُ الطيورُ الجارحة فوقَ أغصان شجرٍ كثيف متوحِّش ، و على بعد خطواتٍ فقط حركةُ السيرِ لم تهدأ و تواصلَ الإزدحامُ عند ذات العطفة التي تربطُ بين النهر و الشارع العام. مررتُ بالمخبز و اشتريتُ ثلاث ربطات، لا أريدُ أن أنقطعَ في المستقبل من الخبز و أقومَ باستدانتهِ من مريم العجوز. ما أقبحَ خلقتها و هي تصيحُ و اللُعاب يزبِدُ على طرفي شفتيِّها. أفكِّرُ بالتوجه إلى سوقِ الخضار أيضاً، سأحصل على نعناع أخضر و كيلو فاصولياء و بعض حبّات التين الأسود، أشتاقُ إلى زمنِ الأرضِ و البستان، إذ امتلكَ أبي قطعة أرضٍ اشتراها بترابِ الفلوس و كانت تقع على الطريقِ الخارج من العاصمة. و بعد أن باعها لم نعُد أنا و إخوتي نقصد أي مكان خارج العاصمة، فقد ماتَ و أوصانا بالعدل و أشارَ إلى أختي الصغيرة المتكورة على نفسها بين أجسادِ المعزيِّن و لا زالَ يهزُّ أصبعهُ السبّابة حتى زفرَ آخر الأنفاس و أسلمَ الروح.
يكيلُ البائع ما اشتريتهُ و يضعهُ على كفّة الميزان، يحاولُ حجب القيمة بأن يديرَ لي ظهرهُ، لكن زبونة مفاجئة ندهتْ عليهِ من داخل المحل، جعلتني أكشفُ غشّه، فيما يهتزّ جسمه السمين القصير و هو ينأى بثقة. نتيجة اعتزالي الأيام الماضية، لا أذكرُ بالضبط ثلاثة أو أربعة أيام، تشابهتْ عليّ، فإني افتقدتُ الشمسَ المشغوف بها و بلونِ ضيائها الأصفر. و لما كنتُ صغيراً في عمرِ المراهقة، أصابني ولعٌ باقتناءِ و اختيارِ الأشياء التي لها صلة باللون الأصفر، فشجعّتُ منتخب البرازيل و سرقتُ حصة إخوتي من الموز و هِمتُ بالقرص الطافي أعلى السحاب و أوشكتُ أن أفقدَ البصر.
وجهّتُ للبائع القليلَ من النصائح و استغللتُ موهبتي بالوعظ، فأخذ يهزُّ رأسهُ ثم أجابني بوقاحة:
- يا أخي إذا لم نغشّ الناس متنا من الجوع.
و جئتُ لأقولَ لهُ أنني جائع مثله لكني آثرتُ السكوت. مشيتُ على الرصيف هادئاً متحاشياً قدرَ الإمكان نظرات المشاة الفضولية، و الفضولُ لدي حالة عامة تصيبُ المجتمع كما تصيبُ الأفراد، و أصختُ السمعَ لخطاهم تجتازُ الرصيف الطويل الشاحب و المقفر و هي تبتعد.
لا شك أنها اعتقدتْ موقفي سيكونُ، .. سيطوي رأسهُ و ينسى. هراء!، لقد ذهبتُ إلى العرس الذي أقيمَ في فندق، مرتدياً أزهى قميص و أرقى ربطة عنق وجدتها صدفة في محل تصفية. ثم لمعّتُ الكندرة الجلد، و بخختُ من العِطر الذي يوحي بأنني العريس نفسه، مع أنني أضعتُهَا حينما كنتُ أقابلها في حديقة البلدية قبل شهور و انقطعتْ أخبارها. بيد أنها قَبِلتْ ببائع دجاج و هجرتني. و ما أن لمحتُها تعتلي المنصة بقرب بائع الدجاج حتى وجدتَني أُسَّر و ألوحُ بكفي لها، الأمر الذي بعثَ الفوضى و الهياج و الدهشة. و للحظة كنتُ سوف أضع أصابعي في فمي لأطلق صافرة صغيرة. لكن العريس احترَّ و نهضَ ليضربني، لأنهُ استلَّ سكيناً فضيّة كانت على أحد المناضد و أشهرها في وجهي، و على الفور تطوّع أحد الحاضرين بالقبض على كتفي و تكبيلي من الخلف غير أنني لم أتبين وجههُ جيداً خلال أضواء الصالة. كل ذلك بينما أسمعُ الشتائم تنالُ مني بلا احتشام. و دسَّ العريسُ البغيض حافة السكين في أحشائي و لمّا ومضَتْ .. وصلني أنها أنجبتْ طفلها الأول في المستشفى.
دققتُ البابَ بقبضتيّ مراتٍ و مرات. اهتزّ و بدا أنهُ سينكسِر، ثم شممتُ الغبارَ الذي فاحَ من الإهتزاز. و في أنفي على أثرِ ذلك ، أُفعِمتُ برائحة الياسمين البريِّ المجبولة بالرطوبة العتيقة المميزة. فتحَ أيمن، بوجههِ المجدور و الشفاه الرقيقة، شِق الباب و أخذَ يناظرني كأني إنسانٌ غريب يراهُ لأول مرة.
- أمسِكْ ! ، ضعْ الأكياس في المطبخ.
- جائع .. انتظرتُكَ لفترة طويلة. أينَ هاجرتْ؟
- صدّقني لا أدري. ساقني رأسي على غير هداية و انتظرتُ أن تكلَّ قدماي، و لم يخطر لي أنهما ..
- حزورة؟.
و صفقَ البابَ في وجهي، و سمعتهُ يضحكُ وراءه منتشياً.
- لن آتي بالأطفال إلى بيتي منذ اليوم، أقسمُ على ذلك، لن أسمحَ لأحدٍ أن يزاحمني مأواي و لو بداعي البراءة.
و أطلَّ أيمن برأسهِ من النافذة المسيَّجة و بقربهِ رأسُ زينب المضفور، إذْ كانت أقصر منهُ، تشعلقَ كالقرد و شرعَ يغيظني و يفتعل الحركات الغبية.
- قلبتُ بيتي مكاناً لكم يا أبناء الذوات!، و ها أنتم جردتموني وسائدي و صحوني، .. تفو!
يبدو أنها كانت تتنصتُ على نحو خفي. فطلعتْ إلى الشارع بفستانها المنقِّط البالي و بيدها سطل رشقتْ محتواه على الحائط في الزاوية. و تناهى زعيقُها النشاز:
- لم يبقَ أحد إلا و تبنيته. قل لي، من لم يسمع ببيتكَ بعد؟، ها !.
و اتكأتْ مريم بعصاها و تقدمتْ نحوي بعدمِ إتزانٍ ظاهر، ثم أردفتْ:
- العجائز أخبرنني، أنكَ أمضيتَ السهرات بينما تدلِّك أقدامهن بماء الورد و العليّق. أما الرجال، أو الذين تسميِّهم أصدقاءك، فقد أغدقتَ عليهم بالجربات و السراويل الداخلية و الآن، هؤلاء الأطفال. نفدَ صبري، سأرفع قضية .. أبلّغ عنك و تختفي إلى الأبد ..
و لا أستطيع أن أصفَ لكم منظر الثلج أثناء ندفه من السماء. لقد كان طارئاً عظيماً أبهرني. توشحّتْ السماءُ بالبياض في بُرهة، و انثالتْ خيوطٌ دقيقة متقطّعة، فهمستُ في داخلي .. لا شك أن النهر سوف يفيض الآن، إنهُ تجدد الطبيعة المحتوم .