إلى ضحايا الحروب و الماسي
إلى جثث نسوا أن يدفنوها
و مازالت تحسب سهوا مع الأحياء
تجوب الشوارع ..تلتحف أساها تبطئ من سرعتها و تعرض بسمتها الاستثنائية للمارة كلوحة تحتاج لقراءة عميقة..أن تبتسم و الدموع تملأ عينيك ..أن تسير في شوارع و تفكر في شوارع أخرى ..أن تعيش بنصف قلب و تدفن نصف قلبك تحت الثرى..أن تعيش الحاضر و شيء منك ينتمي دوما للماضي هاته هي حياتها !
تسير ليلا بسيارتها كباحثة عن الهدوء و الكون كله هدوء من حولها تشعر برغبة في الصراخ ..متناقضة حد الموت..حد الدهشة لكنها تبقى جزائرية بنكهة القهوة الصباحية لمطبخ في غرب البلاد حيث يعيش البشر كأنهم يعرفون بعضهم منذ زمن ..في غرب البلاد حيث تجلس في سيارة أجرة و تحكي للسائق قصة حياتك كاملة ..في غرب البلاد حيث يرحب الجميع بالغرباء لا ما هناك من غرباء ابتسامتك هي تأشيرتك الوحيدة و روح الدعابة لديك هو جواز سفرك ..من غرب البلاد هي لكنها تحمل بداخلها وطنا بأكمله ..وطنا اغتال فرحتها ذات يوم في عشرية سوداء أو حمراء لا يهم لونها بقدر ما تهم لائحة الضحايا الذين خطفتهم يد الموت ..عائلتها كانت ممن قتلوا بذنب "جزائريتهم" و بذنب " سكناهم في مكان بعيد عن المدينة" حيث كان المسلحون يمارسون "التزامهم الديني " بقتل الأبرياء!
مربكة مبادئهم ..مضحكة سخافاتهم و مازالت تهليلاتهم و هم يجهزون على عائلتها تتردد في رأسها ..عشرون سنة مرت و صورة الموت البشعة تقض مضجعها و نجاتها بأعجوبة لان أمها خبأتها في التنور مأساة أخرى ..الموت لا يؤلم الموتى بقدر ما يؤلم من يعيش بعدهم وليمة للذكريات..
تسير في الشوارع العربية تارة و الأوربية تارة أخرى ..تهرب من ذاكرتها ..تزور كل معارض الرسم حول العالم و عندما تغمض عينيها تنتصب قريتها الصغيرة لوحة للخراب أمامها فتجهش بالبكاء كطفلة ..مازالت طفلة ..حياتها توقفت و هي ذات عشر سنين بأشرطة الشعر الوردية و الجديلة الطويلة و ابتسامة بريئة :
-أمي ماذا تفعلين ..أريد أن العب قليلا العرس في بدايته لماذا تخبئينني هنا
-صمتا يا صغيرتي ..ابقي هنا و لا تصدري أي صوت و مهما حصل لا تخرجي ابقي هنا مفهوم
-ما هاته الأصوات يا أمي ؟ لم يصرخ الجميع
-قلت لك اصمتي ..سأعود بعد قليل
و لم تعد أمها منذ ذاك الحين ...تحول الحين إلى أبد طويل و العودة إلى غياب ..كيف لها أن تنسى وجوه أشقائها الثلاثة المضرجة بالدماء و ابتسامة والدتها الحنون حية و ميتة ..كيف لها أن تنسى صوت والدها يهمس في أروقة الذاكرة :
-سلمى حبيبتي ابقي قريبة من المنزل و احذري الذهاب للحقول البعيدة
كيف لها أن تنسى أنها لم تودعهم و لم ترتمي في أحضانهم بقوة ذاك المساء فالرعب كان مسيطرا على القرية الصغيرة و الكل كان هاربا من الموت ..كيف لها أن تعرف أن التنور أنقذها من ذلك الموت لكنه أهداها موتا من نوع آخر ..أن تعيش بعد رحيل الأحبة هذا هو أبشع موت ..