زواج فكري
لم يتيسر أمر زواج زهرة الناجي الاجتماعي،
فاجتمعت مع نفسها،
وهو ما كانت تفعله بين الحين والآخر،
فتخصص وقتاً للاجتماع تُحْضِرُ فيه دفتر المَحَاضِر،
وتفتتحه بجدول أعمال محدد،
وتسجّل ما يخطر ببالها من قضايا واقتراحات وحلول.
وعند نهاية الاجتماع،
تضع إطاراً صغيراً يتضمّن أهم القرارات التي أسفر عنها هذا اللقاء مع الذات.
وفي هذا الاجتماع،
تضمّن جدول الأعمال نقطة واحدة هي مسألة الزواج.
كانت تتقدم في السن رويداً رويداً،
وكانت من أنشط خلق الله في محيطها،
ولكن أيّ واحد ممّن حاولوا التقرب منها بنيّة الاقتران بها،
لم ينل رضاها، ولا انفتحت له نفسها.
فكانت تعتذر لذا بذيَّا السبب،
وتتعلل لذاك بذيّاك التعليل،
وتتنصل من ذلك بذيَّالِكَ المانع
وليد القدر،
أو أي ظرف آخر.
وتبقى تائهة لوحدها وراء المصدر الكامن خلف كل هذا التعس الذي تردّت فيه،
لا تدري له كنهاً، ولا تقف له على سر.
لكن الاجتماع ـ الذي عقدته مع نفسها ـ أراحها من كل هذا العناء.
كان هناك عدة متدخلين أطلقتْ عليهم أرقاماً: "متدخل أول"، و"متدخل ثانٍ"، و"متدخل ثالث".
وهذا الثالث صوتٌ كان يأتيها من خارج نفسها،
وغالباً ما كان يشير عليها بحلٍّ وسط بين الحلين النقيضين
اللذين كان يتبناهما في المسألة المتنازع حولها المتدخلان الأول والثاني.
راجعتْ دفتر محاضرها،
فلاحظت في المحضر الأخير تبلور رأي مال بها بالتدريج نحو حلّ رفضه المتدخل الأول بحزم،
وأهاب به المتدخل الثاني بشدة،
وأمسك فيه المتدخل الثالث العصا من الوسط.
وكان رأي المتدخل الأول أن تترك كل شيء في يديها، وتكرّس نفسها للبحث عن زوج، حتى وإن كلفها ذلك البحث الإيقاع به، بعد نصب المصيدة الملائمة له.
وأجاب المتدخل الثاني بأن هذا ليس من أخلاقها، وما كانت لتحتال على شخص بطرق ملتوية لتستدرجه نحو نهاية اختارتها هي له، ورسمت طريقها بعد طول تدبّر وتفكير، وجعلته كالأسد المغيَّب تدفعه دفعاً نحو العرين؛ فلا أخلاقها الإنسانية تسمح لها بذلك، ولا استيقاظه ـ في يوم من الأيام ـ على الحقيقة الصّاعقة، مضمون العواقب، مأمون النتائج. وهل تتوقّع أن يقول لها مثلا: "مرحى لكل هذا الذكاء! فقد أحكمتِ والله الخطة إحكاماً لم أنتبه معه إلا وأنا تحت يديك، وطوع أمرك، ورهن إشارتك!"؟
وجاء المتدخل الأوّل مجدداً ليبرر موقفه ذاك، فقال:
ـ لو فقط كانت عجلة الزمن متوقفة،
لأصغت الأذن لمثل هذا الموقف،
ولارتاحت له النفس.
ولكن الأيام تتطاير أوراقها وتأخذ معها أطواراً وحيّزات متتالية ممّا لنا من عمر.
وعندما يُقال إنكَ إن لم تقطع الوقت، فسيفه سيقطعك، معنى هذا أن الاختيار حتمي في بعض المراحل من العمر.
لذلك، فلا مجال للتردد أو تأخير هذا الحلّ القاضي باصطياد الزوج
ـ كما يصطاد القنّاص الطريدة ـ
والإيقاع به في قفص الزواج،
حتى وإن اقتضى الأمر إغراءَه بالثريّا في عنق الثور وبما وراءَها وما حولها من نجوم!
وكان أن تناول المتدخل الثالث الكلمة، فتحدث ـ كعادته دائماً ـ بتؤدة الحكيم وبعد نظر المتبصر، وقال:
ـ ليت الأمر كان لنا، في مسألة الزواج هاته؛
فإنما هي من الأرزاق،
والأرزاق كلها بيد البارئ جلّ شأنه.
وعزاءُ المؤمن هو دوماً في تفاؤله الذي ينبغي أن يحافظ عليه حتى في أحلك الظلمات.
وما أرى سوى أن تتحليْ بالصبر والانتظار، وأن تقرني بهذا المزيد من الحركة وتوسيع دائرة الاتصال.
وإذا كان لا مناص من تفعيل كلمة "الزواج" هاته لتهدئة النفس، الشهيرة بقلة الاصطبار واستثقال ظل الانتظار،
فليكن هناك زواجٌ فكري؛
زواج يتم منذ اللحظة الحالية،
ونحن شهود على ذلك،
زواجٌ بقضايا الوطن،
الوطن: صغيره وكبيره،
وتبني جميع السبل التي تنقذ أو تسهم في إنقاذ المواطن
مما يتعثر فيه من وحل الجهل والأمية والفقر..
وليتم ابتكار البرامج، ووسائل التعبير والتبليغ عن مثل هذه الحالات المستعسرة والمستفحلة في سائر المجتمعات.
وإنه والله لمن أعظم الأعمال الإنسانية التي يُقدم عليها المرء،
ولينتظر كل فاعل جزاءَه الذي لا يخيب له مع عمله ذاك الجليل رجاء.
ومن يدري، فلعل هذا يأتي بالمطلوب،
ويحمل الطائر الملائم إلى العش المأمول؟
ما إن أنهى المتدخل الثالث كلامه،
حتى تبيّن لزهرة الناجي صوابه،
فختمت الجلسة
بعد أن اعتصم المتدخلان الأول والثاني بالصمت المطبق.
وكان أن تحركت في الاتجاه المقترح عليها من قبل المتدخل الثالث،
فانتشر لها ذكرٌ،
وطار صيت،
وبين الفينة والأخرى كان عصفور مّا يطل ويصدح مغرداً،
ولكنّ أذني زهرة الناجي لم تنشدّا إلى أيّ من الزقزقات الشادية.
لقد كانت قد دخلتْ إلى ردهة قصر "الزواج الفكري"
من بوابة الصرح الواسعة،
وسرعان ما صارت وجهاً،
تتطلع نحوه آلاف الوجوه.
*****