ملحمة زهرة الناجي
من فتيات حيّنا ذوات المجد والتقدير والصيت الحميد، زهرة الناجي، سليلة بيت الناجي المتواضع، إذ لم يزاول أبوها، منذ فتحنا أعيننا عليه، مهنة أخرى عدا دفع عربة يد أو جرّها بحبل يحيط به نفسه من الكتف إلى الخصر؛ فهو إذن كان نقّال سلع، أو حمّالا. ومع ذلك، فها بيته قد أنبت زهرة الناجي! ومن يجهل من تكون زهرة الناجي؟ لقد ركبت موجة الابتكارات النيتية العصرية، فجعلت من حيّنا دولة، ومن دولتنا قطراً عالمياً يعرف الجميع أدق ما فيه من خير وخيرات، وما يتهدده من شرّ وويلات، وتتندّر بهفوات الكبار حتى تضطرهم إلى تصحيحها علناً تصحيحاً مرفقاً بطلب الصفح، وقد يتهاوى بهم ذلك سريعاً من المنصب المرموق الذي كانوا يتربعون على سدة الحكم فيه.
بزهرة الناجي، صار لحيّنا ذكر وشأن بين أحياء المدينة، وأصبح في يدنا سلاح دولي ندافع به عن حقوقنا، وندفع به ما يُلمّ بنا من ألوان التجني والدوس بحذاء الدكتاتورية، محلية كانت أو عالمية، على كافة أنصبتنا المشروعة.
*
الذي لم يكن يخطر بالحسبان، هو أن يقع جملة من شباب الحيّ في حبها والهيام بها، والعبور إلى مستوى رفع الصوت بذلك، ونظم الأشعار للقادرين على النظم، والبوح بالمكنون جهاراً؛ فصارت زهرة الناجي زهرة الحيّ المطلوبة من كل يدٍ يريد صاحبها أن يتقرّب منها والاستئناس بشم أريجها، بل والانفراد بها لإدامة التملي ببهاء طلعتها النيّرة، وسناء جمالها الخلاب.
حينها تعقّد الموقف، وصار اللسان يسأل في كل مكان: ترى، لمن ستكون في نهاية المطاف؟ ومن هو المحظوظ الذي سيفوز بيدها؟
وكأنما روح العصر نفسها شاءت لها المزيد من التعقيد لوضعها، إذ راح العديد من رواد عالم الفضاء الافتراضي يخطبون ودّها، ويتقربون منها، ولا يترددون في التصريح بشغفهم بها، والرغبة الأكيدة في السير بجوارها، خطوة بخطوة، ولو كلفهم ذلك ما كلفهم من تضحيات.
ورغم كل هذه الضجة المثارة حول فتاة الحي المدللة الشهيرة، إلا أن والدها السي حمّو بن عبد السلام قربال ظل مواظباً على ممارسة عمله كحمّال، يجري في طلب رزق الأسرة سحابة يومه، ويستريح ليلا بمجالسة روّاد حلقة ابّا احماد، حيث يتابع أحداث مسلسله هو الآخر حول الظاهر بيبرس، أو أبي زيد الهلالي، أو عنترة بن شداد، وما ينافسها من أمثال الأميرة ذات الهمة وولدها عبد الوهاب، وحمزة البهلوان، وفيروز شاه، وحرب البسوس، والإمام علي ورأس الغول، فضلا عن هذه "القصص السندويتشات"، كما كان يسميها مازحاً ابّا احماد، والمستمدّة في معظمها من ألف ليلة وليلة، والمأثور الشعبي.
فأبو زهرة الناجي شبه غائب عن طحين الأحداث من حوله، وهو أبعد الناس عن تقدير خطورة ابنته، وما صار لها من أمر ونهي وسط علية القوم. وما رأيك في الضجة التي تخوضها حالياً حول تنظيف الأحياء من النفايات، وسحب ذلك من الشركات الأجنبية، وتشغيل أبناء الحيّ وبناته فيه؟ وهذه الضجة الأخرى التي شنتها حول النساء القاصرات، وضرورة احتضان المجتمع لهن، والعناية بهن، ومسح دمعة المعاناة عن خدودهن؟ وهذه المعركة السياسية التي فتحت فيها النار على معاشات الوزراء ونوّاب الأمة، ممّا انضمت فيه إلى العديد من الناشطات والناشطين الاجتماعيين، وصار الموضوع حديث الخاص والعام في مدينتها، ففي دولتها، والآن يتداوله المهتمون في العالم أجمع؟
ولم يكن الناجي إلا اسمها الإنترنِتي، قبل أن يلصق بها إلى الأبد. وقد بلغت أصداؤه أذني والدها، ولكنه لم يُعر ذلك كبير اهتمام. فهو الآخر كان له عالمه الخاص الذي يبحر فيه كل مساء، يمخر أمواجه وأمواهه تبعاً لدفة المركب التي يحرّكها الربّان الماهر في فن الحكي ونسج القصص والتفنن في خلق لحظات التشويق ومواقف الاستغراب.
وجاءت المفاجأة عندما اتصل بها أمير من مسلمي الهند، وعرض عليها الاقتران بها؛ فهو ممّن خلبَ لبَّه ما أحدثته من جلبة في البدء، قبل أن يتابع عن قرب سائر حركاتها وسكناتها، فسكن طيفُها خياله، ولم يفارقه قط. فهو يطلب الرحمة وتقديم العون اللازم له لإنقاذه مما هو فيه؛ فهو، قبل كل شيء وبعده، إنسان. فأي موقف تتخذه من مثل هذا العرض؟
*
في ذلك المساء، عاد الأب باكراً من جلسته السماعية، وقال لابنته:
ـ تركت ما هناك من ملاحم، لأتابع ملحمتي المنزلية!
حدقت فيه زهرة بعينين ثاقبتين، وسألته قائلة:
ـ لستُ إحدى بطلات تلك السِّيَر العريقة والأصيلة، ولكنني قد أكون إحدى حفيداتهن التي لا يبخل الزمان بوجودهن، ولا يقتِّر في الجود بهن.
ـ عدتُ إليكِ بسرعة لأنني لم أعد أستطيع الجلوس في الحلقة جلوسي الذي كان لي منذ سنوات طوال. لقد هاجمتني النُّكَتُ والمستطرفات والتعليقات الهازلة، من كل مكان، ولكن، وبالمقابل، تقدم مني عدد لا بأس به من خاطبي ودّي والراغبين في طلب يدك للزواج!
ـ وبماذا رددتَ عليهم؟
ـ قد والله امتلأت نفسي بالفخر والانتشاء بأن يكون لابنتي كل هذه المكانة الرفيعة في نفوس الناس. ولا أخفيك أنني منذ أيام طويلة، كنت أدخل لأشاهد ابنتي الضئيلة البسيطة المحافظة والمراقبة لطقوس دينها، وأخرج فتتقاذفني ألسن الناس، كما تتقاذف الأقدام أو الأيدي كرة القدم أو الكرة الطائرة، وكلها تنفخ في الصورة قليلا.. وككرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل حتى سفحه، ما ازدادت صورتك إلا مهابة وعظيم تقدير. لقد انتفختُ اعتزازاً وفخراً، ولم أدر إلى أي حد داخلني سحر الغرور كذلك!
ـ وماذا كان ردّك على تلك الأقوال والمطالب؟
ـ وما الذي أردّ به على أحاديث وأفعال أقلّ ما يقال عنها إنها وليدة المزاح أو الخيال أو الدعابة، أو لا أدري؟ إنهم يتحدثون عن شخص عظيم لا أعرف صاحبه. وهم ينعتونه فيذكرون ابنتي.. ولكن زهرة التي أعاشرها بعيدة كل البعد عمّن يتحدثون عنها. فكنت أتحاشاهم ببسمة جميلة، وأحثهم على طلب غرضهم في جزيرة أخرى غير جزيرتي.
ـ لكم نحن نحبّ الخلاب الباهر، ولكم نحن نجحد مواهب ذوينا، بل وإنه ليستعصي علينا دوماً أن يحط طائر الموهبة على رأس أحد أبنائنا وبناتنا، فيهبه من روح التميّز ما به يتفوّق على القرينات والأقران!!
*
في الأيام التالية، تكثفت الاتصالات ممتطية صهوة الشبكة العنكبوتية، ونجم عن ذلك عقد لقاء في وسط المدينة، وانتشرت الدعوة، فكان يوم اللقاء كيوم حج حقيقي؛ انبرت فيه القلوب للتعبير عن مكنوناتها، وتفجرت حمم نفوس أصحابها، وحملت الصور كل ذلك إلى سائر أقطار المعمور. وكانت صورة زهرة الناجي في الصدارة، وبعد حين، تحولت إلى أيقونةِ أيقوناتِ مثل هذه الحركة المطالبة بالتغيير ومراجعة الحسابات. ولم يود النظام القائم أن يتدخل حتى لا يحوّل زهرة إلى رمز كالذي مثلته شهيدة أورليان ـ جان دارك ـ فيصير يوم القضاء عليها عيداً وطنياً، ولا يبعد أن يتعداه إلى النطاق الدولي، فينقلب سحر الساحر على صاحبه، ويضخّم ـ من حيث لا يقصد ـ هالة الصورة التي يتوق إلى إقبارها وطمس رسمها.
*
وكذلك صار اسم زهرة الناجي أغنية يشدو بها كل لسان، وحاقت بها الأطماع من كل جانب، فكان حسن تقديرها للأمور قائدها وسط هاته الزوابع التي أحدقت بها من كل مكان.
وحتى يومنا هذا، لا تزال ملحمة زهرة الناجي تتضخّم يوماً عن يوم بمزيد من الفتوحات، وإنّ كثيراً من الإضافات والمرويات، لهي من قبيل العديد من الاختراعات والابتكارات، وليدة الصدفة والخيال أكثر منها إفرازات لواقع الحال.
أليس في ملحمة زهرة الناجي مثال لسائر ما عداها من ملاحم؟!
***