تتعالى أصوات الأطفال الصغار في ترديد آيات الذكر الحكيم, فتثير انتباه المارة جنب الكتاب .
يلتفت البعض منهم, ويحنو البعض الأخر بابتسامة مضيئة لمشهد الصغار وهم يحركون أجسادهم الرقيقة إلى الأمام والخلف , محتضنين ألواحهم الخشبية بنية اللون.
الفقيه كعادته , بجلبابه ولحيته القصيرة يتوسط الجلسة , منشغلا بعد حبات السبحة وتمريرها إلى الجهة الأخرى, ومصغيا لصغار تجاوز عددهم العشرين.
كان الجميع يناديه ( با الفقيه), وهي عبارة فيها قدر كبير من التقدير والتوقير ..... في ذلك الوقت.
تغفو أعين الفقيه قليلا وتتراخى قبضته, فينفلت منها خيط السبحة .
يخفت صوت الصغار إلى أن يتوقفوا عن القراءة والحفظ, ويغلب السكون قليلا لا تقطعه إلا ضحكاتهم البريئة, وحين تنطلق صفارة الشخير, وينغمس الفقيه في نوم هني, يتلقفون الإشارة وتنطلق ضحكاتهم ولمزاتهم لبعضهم متناسين الحفظ, وواضعين الألواح أمامهم.
لا يختلف الأمر أبدا عن أيام خلت ,وسن الفقيه التي تتجاوزالسبعين أصبحت تمنعه من متابعة الأشقياء , لذلك كان يبدل قصارى جهده في تلقينهم ما آستطاع إلى أن تتدلى جفونه مستسلمة لنوم العشي.
بين الفينة والأخرى , تطرق باب الدكان سيدة من الحي ,وتدفع اللوح الكبير الذي يستتر به الفقيه عن المارة , ثم تضع أمامه صينية من الشاي , وبعض قطع الخبز أوالقليل من الزيت , راجية دعاءه واهتمامه بطفلها , ثم تتجول بعينيها باحثة عن طفلها لتلقمه إبتسامة صغيرة وإشارة حانية قبل أن تغادر.
تململ الفقيه في كوته العالية ,كأنما رائحة الشاي المنعنع قد أزالت عنه مخدر النوم , وتربع جامعا ركبتيه وجر الصينية أمامه ...
لا شيء مستجد وليست إلا عادته وعادة سنين خلت
وبنفس الهدوء يرفع رأسه إلى الصغار ويسألهم :
فيرفع أحد الأطفال أصبعه الصغير في استحياء بينما لمزات الصغار تطارده
بصوت مبحوح يغالب أثر السنين يدعوهم لرفع أكفهم الصغيرة, ويتمتم أدعية وكلمات لا يفهم منها الصغار إلى الكلمة الأخيرة (ولا الضالين) , فينزلون أكفهم من جديد.
يرفع (با الفقيه) كأس الشاي بتثاقل إلى شفتيه قبل أن يعيد وضعه وقد التقطت أذناه صوتا صغيرا يجهش بكاءا , وتقطع أناته همسات الصغار.
يتجول بين الرؤوس البريئة بعينه , وبعصاه الطويلة يتفحصهم الواحد تلو الأخر, تم تقف عصاه عند الطفل سي أحمد وقد أحنى رأسه مستسلما لبكاء طويل .
ينقر (باالفقيه) على رأسه برفق طالبا منه رفعه و النظر إليه , فيرفع الصغير رأسه وقد أحمرت عيناه وتخضبت خدوده من شدة بكائه.
بنفس رفقه وعطفه يدعوه للإقتراب , منه فيطالع وجها جميلا , وشعرا ناعما, وعينين واسعتين محمرتين من البكاء, ثم يضع الفقيه يده المعرقة على جبين الطفل ويمسح خده ويخاطبه:
-ما بك .... ما بك ياولدي هل أنت سي أحمد إبن إبراهيم صاحب المعصرة؟
تم يتفرس فيه ... ويردد نعم نعم إنه أنت
يتقطع صوت الصغير منغمسا في حشرجته ويجيب
-نعم (با الفقيه) أنا أحمد
تم يمسح بكمه ما وصل من دموعه إلى أسفل خده
وبنفس حنوه يسأل الفقيه الصغير:
يطلق الصغير تنهيدة أكبر من عمره ويشير للأطفال ويجيب :
-هؤلاء إنهم لا يحفظون باستمرار وحين تنام يا سيدي يتوقفون عن الحفظ والترديد.
تنفرج أسارير الفقيه لبساطة ما فاه به الصغير, ويضع كأس الشاي من يده بالصينية ويقول:
-أهذا كل شئ إذن لا تقلق يا أحمد لن أنام من جديد
لا يتوقف الطفل عن درف دموعه رغم تطمين الفقيه, فتتسلل إلى هذا الأخير موجة غير معتادة من القلق والتوجس , وتوحي له تجربته الطويلة وعمره المديد أن في الأمر ما يثير قلقا زائدا.
يقترب من الطفل وقد توجس من دموعه ولحظات نومه الهنية, وبنفس هدوئه يضع أذنه أمام شفتي الصغير ويسأله:
-هل ضربك أحدهم هنا يا أحمد؟
لا يحبس الصغير دموعه وهو يلوح برأسه يمينا وشمالا بعبارة النفي
ينزعج الفقيه ويزداد الأمر أنغلاقا عليه ,فيحمل العصا وينقر على رأس مصطفى , وهو أكبر الأطفال سنا وأعتاهم قامة , وبصوت مغاير تماما وغلظة غير مألوفة يزأر في وجهه:
-ما ذا فعلتم بالصغير أحمد .....؟
يبدو الجزع على محيا الطفل مصطفى وتنطلق دموعه مسابقة جوابه وأيمانه وهو يقسم بأن لا أحد لمس أحمد أو ضربه.
ينزعج الفقيه وقد خانته تجربته في فك طلاسم ما أحاط به , ويتعالى صوت بكاء أحمد وحشرجته المستمرة, فيسابقه مصطفى البكاء أيضا ,مجزوعا وخائفا من أن يلصق به الفقيه مسؤولية ما لحق بأحمد , ويطلق العنان لدموعه وصراخه.
يحمل الفقيه عصاه ويلوح بها راغيا زابدا , وقد تسارعت دقات قلبه المنهوك, ودون إدراك أو قصد منه يثير موجة من الخوف الكبير بقلوب الصغار , فتتعالى أصواتهم جميعا بالبكاء وإجترار دموعه
يستجمع قواه, ويقف بقامته المنحنية أمام الجميع, فتتسارع أصوات البكاء والخوف , فلا يجد بدا من مغادرة الكتاب والوقوف بالباب وقد تملكه العجب وخارت قواه من أمر جلل قد يكون حدث في فترة غفوته , ويقلب حائرا هذا الجلل وما عساه يكون دون أن تنفعه تجربته ولا سنه الطاعن.
لحسن حضه تدق الساعة الخامسة مساءا , وتبدأ طلائع الأمهات في الهطول لإستـلام أطفالهن , ويخفت صوت الصغار تدريجيا بحضورهن المشرق .
يغادر الأطفال رفقة الأمهات فيقل خوف الفقيه أيضا , تم يحضر إبراهيم لإستلام إبنه أحمد فيلاحظ إحمرار عينه بالبكاء, ودون سؤال يحمله إليه ويعانقه واضعا قبلة صغيرة على جبينه .
يلتفت للفقيه ثم يسأل طفله أحمد وهو يبتسم له:
فيأن الصغير ويفرج عن عبارة صغيرة :
يغرق الفقيه في وحل خجله, ويشير لإبراهيم وقد بدا في محياه ما خطته سنون العمر من عياء ويقول:
-إنه التعب يا ولدي.... الصحة لم تعد تساير هؤلاء الأشقياء .. ربما ضربه أحد الأطفال..
ثم وهو يلوح بعصاه وينزل ببصره ليواجه وجه الصغير:
-لا تقلق يولدي لن يحدث الأمر مجددا سأبدل قصارى جهدي
يبتسم إبراهيم وهو يضع يده على يد الفقيه فوق مقبض العصا ويقول:
-لا عليك (با الفقيه) إبني لم يضربه أحد .... إبني أحمد... أنا أعرفه
ويشير للفقيه تعال لأخبرك بما حدث.
يتنفس الفقيه الصعداء ,ويفرج عن إبتسامة ضنكة , ويقترب من إبراهيم مستطلعا فيقول هذا الأخير:
-إسمع سيدي , ليس في الأمر ما يثير قلقك ولا عليك ,كل ما في الأمر أن والدة أحمد توفيت إلى رحمة الله , ولأنه كان يحبها كثيرا فقد ضل دائما يسألني عنها.
ثم يضع إبرايهم يده على رأس صغيره ويمسح عليه قبل أن يكمل:
-الحقيقة أن الأجوبة أعيتني ,وملاحقاته لي أفرغت جعبتي من كل الأجوبة , لذلك قلت له يوما ولفرط سؤاله أنها ماتت ولن تعود أبدا أبدا , لكنه ضل يردد أنها في مكان ما تنظر إليه ...
يتوقف قليلا دون أن يزيح نظره عن إبنه ثم يتمم:
-ويوما ما لأدري ودون وعي مني , ولأشجعه على دخول الكتاب لحفظ القرأن خارج أوقات الدراسة , أخبرته أن أمه ستكون سعيدة جدا في مكانها هناك إذا حفظ القرأن كاملا, وأنه بذلك سيكون سببا في دخولها الجنة.
يتحشرج صوت إبراهيم وقد أفرجت عيناه عن خيط رقيق من دمع ناضب ويتمم:
-لم أكن أعرف أنه سيأخد كلامي بكل هذا الجد ...
ثم وهو يرفع رأسه إلى الفقيه:
-في كل يوم كان يشتكيك لي كان يقول أن الفقيه ينام ونحن لا نكمل الحفظ ....
-ما عساي أفعل الأن....
-في الصيف ستأتي خالته
ثم يسحب طفله من يده ويرفعه إليه ليعانقه ويلقي تحية باهتة للفقيه ويغادروهو يردد
فلتكن مشيئتك يارب