هته قصة وقعت لي أشارككم بها للعبرة...
" إنسانية عمياء .." ...بقلمي..
لقد مرت ربع ساعة حتى الآن و هي لا زالت كما وجدتها ، تلوح بيدها للمارة من دون أن يعيرها أحد اهتمامه .. لم أكن يوما من النوع الذي يشمئز من مناظر كهذه أو يستنكر أفعال المتسولين على المجتمع ، بل العكس لطالما آمنت أن الرزق على الله و أجود بما كتب لهم حمدا مني على رحمته بي و صدقة أشكره بها .. و لكنني في نفس الوقت لم أكن سادجا ، وكان على بالي ما يقوم به البعض من تصنع الأمراض و العاهات ليثيروا شفقة الناس ، و هذا الأمر كان يثير غضبي ..
أرجعت هاتفي لجيبي بعدما تأكدت من حضور صديقي و اتخدت لي إحدى الكراسي العامة على بعد أمتار من تلك المرأة ، بكرسيها المتحرك الذي تساءلت كيف لا زال يعمل رغم الهشاشة البادية عليه ، بملابسها الرثة و وجه شاحب و جسم مرتعش .. أشحت بنظري عنها بعد أن أحسست بعدم الراحة لحالتها و ركزت على المارة و كيف أصبح لهم منظر المتسولين شكلا من أشكال الحياة العادية ، فلا ترى بعيونهم أي تأثر و إحساس ، من يلومهم فالظاهرة ٱنتشرت لدرجة لا تطاق و كل واحد منهم له من المشاكل ما يخول له مكان للتسول هو كذلك ، أما آخرون فيلقون بعض النقود أمامها دون النظر في وجهها ، و كأنهم مجبرون على ذلك ، أو كأن التعاريف و العادات تلزمهم ذلك حفاظا على إنسانيتهم ..
عدت أحملق بها و أنا أحلل سبب ٱختيارها لهذا الشارع التجاري المزدحم بالمارة ليل نهار . ٱشتبكت نظراتنا لوهلة فصارت تلوح لي هذه المرة محركة شفتيها بكلمات لم أسمعها وسط الزحام .. ٱبتسمت ساخرا من نفسي و أنا أضع يدي في جيبي باحثا عن بعض العملات المعدنية .. شد نظري حين رفعت رأسي يدها اليمنى التي لا زالت تلوح بها ، كان كفها موجها للأسفل و كأنها تنادي على الناس . انتفضت من مكاني و اتجهت نحوها ، و في اللحظة التي لمحتني و أيقنت بأني أقصدها صارت تشير لي خلف كرسيها بيدها و عينيها .. وقفت أمامها مستغربا و يدي في جيبي ، أشارت لي بعينيها العسليتين ثم استدارت خلفها و عاودت النظر إلي و كانها تحاول إخباري شيئا ما .. بتثاقل خطوت جانبا و حركت رأسي لأرى مالذي تشير إليه ، نظرت إليها و قلت " أتريدين قارورة الماء تلك .. " فردت بالإيجاب بحركة من رأسها ..
فتحت القارورة التي ناولتها بلهفة و صارت تتجرع الماء كمن وقع على بئر وسط صحراء شاسعة ، كطفل يمسك بشفتيه على حلمة أمه بتلهف و أنا أرى مصدوما الماء يجري في عروقها و يحييها كما يحيي المطر الأرض الجافة .. تنهدَت بعدها نفسا عميقا و فتحَت عينيها على أكملهما و بابتسامة صادقة شكرتني و هي تشير لي بيدها على أن أبقي ما في جيبي من صرف ، و شدت على قارورة الماء بقوة .. أنزلت رأسها و أخرجت مغزلا من تحت ملاءة كانت تغطي بها رجليها و شرعت في غزل جورب على ما بدا لي ..
ما إن استوعبتُ الأمر و أخذ هذا المنظر تحليلا كفاية بذهني حتى وقفت مع نفسي وقفة سكون ، و زارتني أحاسيس فجرت في قلبي ألف عبرة .. و ها أنا ارتجف و كأنها عدوى ألصقتها بي .. حاولت فتح فمي لأتكلم لكنني لساني عجز و أحسست بأناملي تتخدر .. أكانت مذ رأيتها تنادي المارة لمساعدتها لعدم قدرتها الوصول لتلك القارورة . أكان جفاف شفتيها من العطش و كل تلك المناداة من أجل شربة ماء ..
ارتعش جسدي كله و كأني استفقت توا من السبات .. " آه على تكبرنا و عمينا .. " قلت في نفسي ، كيف أنه في عز نرجستينا لا نرى الأشياء على حقيقتها ، بإنسانيتنا العمياء ننظر للخلق من علو أنفتنا و نحكم عليهم بفكرنا المتعالي .. جبروت مزيف يحكمنا ، يغشينا و يسيطر علينا .. و أنا من علياء تواضعي أطنني أتصدق عليها ، و الله يتصدق علينا كلنا و هو الرزاق العليم بحالنا .. رفعت رأسي للمارة فلم أرى سوى وجوه سوداء لا يهتم بعضها لبعض ، قطيع خراف من دون عقل و لا مشاعر . فويل لمن خرج عن القطيع ليلتهمه الذئب ..
أطلت وقوفي أمامها لعلها ترفع رأسها فأطلب منها السماح على غباوتي و جهلي ، لكنها لم تفعل ، فشعرت برغبة في البكاء و أنا أستغفر الله على تكبري و أطلب رحمته بعباده و بي ، قبل أن ينقذني صوت صديقي يناديني من الجهة الأخرى ، رمقتها نظرة أخيرة واضعا بعض القطع النقدية على قطعة الثوب المفروشة أمامها ، و سلمت عليها سلام الوداع و ٱنطلقت في حال سبيلي داعيا الله أن أجد من ينجدني يوم أحتاج لمن ..
الحمد لله ...