بسم الله الرحمن الرحيم
أنهار ولدت لتحيا وسط الأزهار
رأينا النور في نفس اليوم ، لا أذكر من فينا الذي تنفس أوكسجين الحياة قبل الآخر ، لكن الجميع إحتفل بنا في نفس اللحظة ، كان قدرنا أن لا نشبه بعضنا ،
كل ما يربطنا ببعضنا أننا نحمل إسم نفس الوالد في البطاقة الشخصية ، سوى ذلك ؛ لكل منا أسلوبه ، نظرته ، حياته ، رؤيته ، و أسلوبه في إرتباطه بالآخر.
- ما أسمك ِ ؟
- أسمي أزهار
و أنت ِ ، ما أسمك يا حلوتي ؟
- أسمي أنهار
- هل أنتما أخوة ؟
- نعم
كان الكل يسألنا دائماً ، و كان علينا أن نشرح لكل من يقابلنا بأننا تواماً غيرُ متشابه ، أزهار صاحبة العيون العسلية ، و الشعر الأسود الطويل المتناثر.
أنهار صاحبة العيون السوداء ، و الشعر الأشقر قليلاً و المتماوج.
كانتا حدثاً في كل مكان ، يلفتان الإنتباه بجمالهما الآخاذ ، لا يفترقان عن بعضهما رغم إختلاف صداقاتهما ، أزهار تميل للهدوء و التعمق ، تعشق الكتب ،
أنهار تعشق الأضواء و تحبُ لفت الأنظار دائماً ، لديها مهارة الحوار ، و الحديث المنمق.
حاول والداهما كثيراً عدم التفرقة بينهما ، كان يجتهد كثيراً في عدم التفريق بينهما.
يصرخان سوياً:" أبي قد وصل من العمل "
يتسابقان إليه لينالا بعضاً من حنان قُبله ، ليحتضنهما معاً و يقبلهما. كانتا مرتبطتان بوالدهما كثيراً ، لا يستطيع أن يرفض لهما طلباً ،
كان يحاول جاهداً أن يلبي كل ما يحتاجه الأختان ، كان يحبهما بجنون.
- هل تعلمين .. أنا خائفٌ عليهما .. يقول لزوجته.
- لا تخف عليهما ، سيكبران و سيواجهان الحياة كغيرهما.
- لكن .. أخاف أن يفترقا ، أن لا يفهما أن في إربتاطهما سوياً قوتهما ، أن يفهما أن في إنكسار أحداهما يعني إنكسار الأخرى أيضاً.
- لا تبالغ كثيراً ، صدقني ستكون حياتهما أجمل مما تصور. نم يا عزيزي و أطرد خيالاتك تلك بعيداً.
مرّت الأيام ، و كبرتا ، و كُبرت أحلامهما معهما. مع مرور الزمن أضطر والدهما للغياب طويلاً ، لم يكونا يريناه كما السابق ، أصبح عليه أن يوفر لهما متطلباتهما التعليمية.
كان يعملُ ليلاً و نهاراً ، كانتا تشتاقان إليه دوماً ، ينتظرانه على أمل أن يلتقيا به قبل أن يخلدا للنوم ، لكن في النهاية ينامان قبل أن يعود هو متعباً ، و يطمئن عليهما من بعيد ،
ليجدهما ملاكين غارقين في سباتٍ عميق.
و في الصباح يصحو باكراً ، ليغادر قبل أن يستقيظا.
لم تستطع أزهار مقاومة رغبتها في الكتابة إلى والدها ، إشتاقت إليه كثيراً لتجد نفسها تكتب له :
والدي العزيز
مرّ أسبوعان دون أن نراك ، إشتقتُ لقبلاتك الصباحية ، و ضمتك المسائية.
إشتقت لصوتك و أنت تقرأ لي القصص و تروي لي الحكايات.
غداً سأكمل عامي العاشر ، لكنني لستُ بسعيدة يا والدي ، لأنني كلما كبرت ، زادت مساحة ابتعادك عنا !
أرجوك عد باكراً في الغد ، لأن وجودك حولنا سيكون أعظم هدية بالنسبة لنا.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
كانت الغرفة مليئة بتلك الرائحة التي تثير في نفسك شيئاً من المرض ، تلك الصافرة التي تنطلق كل دقيقتين ، و كأنها تؤكد بأنك هنا تحت رحمة هذه الغرفة.
المكان نظيف و أبيض ، و صورة جسم الإنسان معلقة في كل ركن.
- كيف حالك اليوم ؟
- بخير الحمدلله.
- هل تواظب على تناول الأدوية ؟
- نعم
- كيف تقبّلت عائلتك الخبر.
يتمتم قليلاً ، ثم يصمت ، تدمع عيناه ، ترتسم ومضة سريعة في ذاكرته ، يرى زوجته وحيدة تبكي غيابه ، و إبنتاه تبحثان عنه غير مصدقتين رحيله.
- لا .. لم أخبرهم.
- لماذا ؟
- لم أستطع ، من الصعب علي أن أخبرهم بأنني سأودعهم قريباً ، سأحاول أن أقضي معهم الفترة القادمة ، أفكر في تكوين ذكريات كثيرة معهم.
أود ُ أن أشاركهم ما تبقى لي من عمر ، أن أرسم مستقبلهم و أسافر مع خيالهم ، أود أن اظل ممسكاً بيديهم طوال اليوم ، و أن ينهالون علي بقبّلهم كل ساعة.
اود أن أحيا ما يعادل السنة معهم في شهر ، و أن احيا في أسبوع ٍ ما أمارسه معهم في شهر ، و أن نمارس في اليوم ما كنا نفعله في أسبوع.
لا أستطيع تخيلَ حياتهم من دوني ، لا أستطيع أن أقول لهم ودعوني ، أنا أحبهم يا دكتور.
- أفهمك ، لكن أن تهيئتهم لغيابك ، خيراً من يفاجؤا بإختفائك !
لم يرد عليه ، أغرورقت عيناه بالدموع و في مخيلته أزهار و أنهار.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أبي لما أخترت لنا أزهار و أنهار كأسماء:
من أكثر مخلوقات الله هشاشة و جمالاً هي الأزهار ، تلك التي تحيا على شمس الصباح ، و تتنفس رائحة جميلة تبعث بالدفء في كل مكان.
الأزهار يا أبنتي نعمة كبيرة ، يستخرج النحل منها العسل ، يتبادلها المحبون تعبيراً لحبهم ، و نأخذها ألى المرضى لأنها تشعرهم بالأمل.
أما أنهار ، لأن الله جعل من الماء كل شيء حي ، و مياه النهر عذبة و نقية ، أكثر من البحار و المحيطات ،
النهر مدخر لكل دولة ، يساعدها على توفير المياه عند الجفاف.
و ما يميز الأنهار و الأزهار ، أنهما يمران بنفس المراحل مع إختلاف الأزمان الشباب ، النضج ثم الشيخوخة التي يجف فيها النهر ، و تموت عندها الزهرة.
كانت تسمعه بكل جوارحها ، عيناه اللامعتان و اللتان تخفيان دموعه كادت أن تكشفه ، لكنه ضمهما بسرعة قبل أن تلحظا.
~~~~~~~~~~~~~
- لم تكن تود أن تخبرنا ؟
- فكرتُ كثيراً ألا أخبركم ، لكن لم أستطع ، شعرتُ بأنني أحتاج من يشاركني ، لم أعد أستطع تحمل فكرة وداعي لكم.
يمكن لقلبي أن يتوقف في أي دقيقة ، بل في أية لحظة ، حياتي قصيرة الآن. لا أدري كيف أخبر أزهار و أنهار ، هل سيتفهمان ؟؟
كانت تراه ممزقاً ، مكسوراً ، فاقداً لكل معاني الأمل ، ذلك الأمل الذي كان يشع دوماً من عينيه ، حتى في أحلك الظروف ، لتراه مستسلماً لأول مرة.
ضمته إلى قلبها ، قبلت جبينه و قالت:" لا تخف ، الله موجود ، لا تيأس من رحمته "
أستمعت أنهار لحديثهما بالصدفة ، كانت تريد أن تُري والدها لوحتها التي سهرت ترسمها خلال عطلة الأسبوع ، لم تصدق ما وقع على مسمع أذنيها ، سقطت اللوحة من بين يديها ،
ركضت إلى أختها لتخبرها ، صعقها أختها بحديثها ، لم يصدقا ، ليأتي صراخ والدتهما من بعيد ، معلناً الوداع الأبدي لوالدهما.
~~~~~~~~~~~~~~~~~
والدي العزيز :
اليوم أكملنا عامنا الثالث و العشرين ، غداً سيكون حفل تخرجنا و أنا أختي أنهار.
أمي سعيدة بنا ، لكننا نفتقد فرحتك ، نفتقد تلك القبلات التي كنت تضمنا بها عند كل صباح ، لقد وهبتني أجمل هدية عند وجودك في عيد ميلادنا العاشر ،
لكنك غبت دون وداعنا. لا أعي منك سوى عشرُ سنوات ، أذكر منها فقط لحظة واحدة ،
صوت أمي يصرخ ، و عينيك مغمضتين ، معلنتين غيابك الدائم عنا.
لم يتبقى منك سوى صورة ، أحملها في حقيبتي أينما حللت ، أنظر اليها كلما أشتقت إليك.
في داخلي ذلك الحنين المطلق ، لصوتك الدافيء ، و عينيك الضاحكتين ، نظرتك الصامتة المليئة بشتى الكلمات ، و عطرك الذي يفوح من خديك كلما لامسني.
أمي .. منذ رحيلك ليست كما هي ، لم تعد توبخنا ، لم تعد تشعر بغيابنا أو وجودنا ، كلما كبرنا تزداد مساحة غربتها في غيابك ، كما يزداد شجن الحنين إلى وجودك.
أنهار الثرثارة ، تخرجت بدرجة إمتياز من كلية الفنون ، كانت لوحة تخرجها أنت ، بكاملك ، بكل ما يحمله وجهك من قسمات ، رسمت عيناك فقط في أسبوع ،
كانت تقول:" لوالدي عينان عميقتان ، بيضاويتنان كمياه النهر ، و نقيتين كالزهرة " ، و كلما إنغمست فيهما ، زاد تعلقها برسم تفاصيلهما !!.
أما أنا و كما كنت تقول دائماً:" ستكونين كاتبة مميزة ، سيأتي يوماً نراك ِ في صفحات الجرائد و المجلات و حينها سأقول هذه أبنتي "
هأنا أنشر روايتي الأولى بعنوان " أنهار ولدت لتحيا وسط الأزهار " ، و التي نالت إعجاب الكثيرين ، لكنني لم أجدك لتقرأها !!
هانحن أزهاراً مكسورة ، و أنهاراً جافة ، نحيا في صحراء الحياة ، نفتقد سرابك ، و ننتظر ظهورك ، ليروي حياتنا الجافة بغيابك.
رحمة الله عليك يا والدي ......
أزهار
إنتهت .. وليدة اللحظة .. الساعة الثانية صباحاً .. 28-3-2015
،، منتصر