غريب أن يكون الفضاء الوحيد الذي يشدك هو الذي قضيت فيه معظم حياتك , لا تحتاج لشيء إلا للتواجد داخله . ذاك كان حال أمي في مملكة بيتنا الصغير, لا تغادره إلا مرة في الشهر لإجراء تحليل الدم الخاص بداء السكري , الغريب في الأمر أنها لا تحفظ حتى الطرقات , كنت رغم صغر سني أرافقها , كان اليوم الوحيد الذي تتنفس فيه أمي هواء غير هواء بيتنا , و اليوم الذي نقوم انا و إياها بزيارة إحدى قريبات أبي , كان موعدا شهريا تحرص أمي على عدم تفويته وتحرص قريبة أبي على الاستعداد له.
بعض المسافات رغم قصرها إلا أنها تحمل عمقا بداخلها وهي تنسج وصلا غريبا بين أرواح جمعها الزمن ليحيك تفاصيل صغيرة بحجم كف مولود صغير لم تتشكل ملامحه بوضوح بعد. حكاياتهما كانت تمر على مسامعي وكلي رغبة في تفقد ذاك البيت المختلف عن بيتنا . كان قصرا بكل المقاييس , ففي الوقت الذي كان فيه بيتنا بسيطا رغم مساحته الكبيرة . كانت الفيسفساء بلونها الأخضر المتماوج بالفيروزي تحدث اختلالاغريبا في ذهني , وأنا أحاول تتبع أشكالها الهندسية على جدران بيت قريبتنا. تلك السمكات الصغيرة كانت تسبح بخفة تجعل عيوني تدور بشكل هستيري وأنا أحاول لمسها داخل صهريج الماء , خريره المنساب يشعرني بالإثارة . كلما تفرست في ألوان السمك الصغير وألوان الفسيفساء شعرت برغبة محمومة في الانضمام إلى هذا العالم المتحرك .أسمع ضحكاتهما عن بعد وأنا أحيك عقدا من الزهرات المجهضة من أشجار البرتقال ....
تحضر قريبتنا أطعمة تخل بما تبقى من توازني ؛ حتى أمي لا تستطيع التحكم في بعدها , أنساق في استكشاف الأطباق والتهام عقد اللوز والجوز والقطايف . يصيبني الصمم كليا , ولا يعمل عصبي السمعي إلا بعد أن تقفل معدتي عن آخرها تحت تهديدات أمي بعدم إحضاري المرة القادمة .أتسلل بعدها إلى الطابق العلوي , كان عالما آخرغرف ذات قبب أسطورية تشهد عن ذوق فني رائع , وأفرشة ملوكية لمرأة أحبت الحياة بعمق , وتفننت في حياكة تفاصيلها بإحساس عال ينم عن ذوق رفيع لم يعكر صفوه ضربات الزمن المتوالية على هذه السيدة التي فقدت زوجها الأول و كل أبنائها في حادث مأساوي . ويأخذني النوم على وسادة ملئت من ريش لا أصحو إلا على نداء والدتي تعلن الرحيل.رحيل إلى لقاء قادم لم يقطعه إلا رحيلهما....