برنوس أبيض ناصع يعكس روحا نقية ، و* بليغة* ذهبية تخفي آلام رجلين مولعتان بالوقوف في جوف الليل لأداء ركعات خاشعة لرب الكون وخالقه ،
لحية بيضاء كثيفة ، تتشابك فيها الشعيرات كتشابك التجارب والعثرات والابتلاءات التي اعترت حياة * الشيخ*.
كنا نتدافع في الساحة المتصلة بسوق القرية راكضين نحو *القبة الخضراء *، عشرة صبية تتراقص أرواحهم في نسيم الريف .
كانت قريتنا منطقة تشع بالبساطة والامل وحب العمل والاخلاص فيه ، لم نكن نعرف عن المدينة شيئا ، غير انها تعج بالبنايات الكبرى والتجار والمصانع
و كل من له والد يعمل هناك ، يرتدي ثيابا أفخم من تلك الممزقة المرقعة التي نستر بها اجسادنا النحيلة .
كنا نركض الى *القبة* كل مساء ، حيث نجد *الشيخ* جالسا يقرأ كتابا ذو غلاف بني من الجلد ، لمعة في عينيه تلفت انتباهي كلما أبصرت الكتاب بين يديه
يغلقه ويضعه جانبنا ليرحب بنا ويمسح على رؤوسنا ويثني علينا لعدم تخلفنا عن الموعد، ثم يحدثنا عن ضرورة الالتزام بالوقت .
يعدنا وما إن يتأكد
من حضورنا جميعا يشرع في سرد قصص الانبياء علينا ، ونحن جالسون على الارض يلهبنا شوق المعرفة ، وشغفنا الكبير بجلسات *الشيخ *
ودروسه ، لقد كان نبعا من الثقافة والعلم الخالص نستقي منه الخبرة في دروس الحياة ، الادب واللباقة ، وأهم من ذلك ، نتعلم منه اكثر عن ديننا وحياة
الانبياء والمرسلين .
في ذاك اليوم كنا قد أنهينا شطرا من قصة خير البشرية ، حبيب المسلمين المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كان يوما حارا على غير العادة
ولم يغادر الحر حتى بعد الظهيرة ، طاف بنا *الشيخ* أرجاء القرية ، يطأطئ رأسه و يرد السلام على كل من يمر بجانبه ،ونحن نتبعه
وتعتلي وجوهنا نظرة الغرور ، فنحن رغم بساطتنا كنا نحظى بمحبة الشيخ وعنايته ، على خلاف الصبية الاخرين ، أما معلمنا فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة
جميلة .
كنت شديد الاعجاب بهيبة *الشيخ *
ومكانته الرفيعة بين الناس فالجميع يحترمه احتراما بالغا . كنت أطمح دائما أن اكون مثله ، وكان لي طموح آخر اخفيه بداخلي ، وهو
أن يتسنى لي قراءة ذلك الكتاب الذي يحمله دائما.
وصلنا الى قمة الهضبة هناك ، جلسنا على العشب نتأفف من الحر ، نظر الينا ثم طلب منا أن نكف عما نحن فيه ، ثم أشار الى القرية وقال:
تبدو القرية صغيرة مقارنة بالمدينة هناك ،الا ان قلوب أهلها تسع المدينة ومن فيها ...
اعتدلنا في جلوسنا منتبهين لإرشادات *الشيخ* وكلامه ، فكل ما ينطق به عبرة نرسخها في عقولنا التواقة لاستقبال المزيد من خبراته.
في اليوم التالي طلب منا أن نحفظ سورة القصص، ومن يحفظها ويتلوها بإتقان يحصل على مكافأة ،
حفظتها وكان مناي أن أتلو الايات الكريمة على مسامع *الشيخ* دون أي خطأ أو توقف ، وبالفعل حصل ذلك ، أما بقية الصبية فقد
كانوا يتعثرون في التلاوة كأن ينسوا تكملة الاية فيتوقفون هنيهة ثم يواصلوا ، ومنهم من لم يتمكن من حفظها كاملة.
دخل الى بيته ثم عاد إلينا حاملا الكتاب البني ، انتابني الخجل في اللحظات الاولى لكن سرعان ما انبثق شعاع السرور من عيناي وكدت اقفز من الفرح
قدمه لي وطلب مني ان احافظ عليه :
-ستحتاجونه لاحقا ، تعاونوا على فهمه و التوسع في معلوماته ، هذا كنزكم... ورثتكم إياه يا صغاري.
ابتسامة تبهج القلب ارتسمت على ثغره الطيب بعدما أنهى حديثه ، ثم افترقنا .
بعد ثلاثة أيام التقينا على عتبة مقرنا ، على غير العادة تأخر *الشيخ *
انتظرنا وقتا طويلا ثم قررنا الذهاب الى منزله ، كلما اقتربنا علا صوت القرآن الكريم ، وزادت الحركة من حولنا ، وصلنا لنجد بيته يعج بالناس
وكأنما تدفقت المدينة في قريتنا ، أشخاص كثر يسدون الباب ، لم ندرك ما حصل ،سأل أحدنا رجلا من المارة فأخبره أن *الشيخ* قد توفي.
أجهشنا بالبكاء ، بعضنا يخفى دموعه ،والبعض الاخر يبكي بحرقة ، أما أنا فقد تقدمت خطوتين نحو بيته مذهولا موجوعا، لأشاهد الجميع يغرقون في حزن شديد.
ما زلت أذكر ذلك المشهد ، وأشعر برهبة ذلك اليوم الذي فقدت فيه القرية بدرها .
ها أنا أعيش الان في حضن المدينة ،
وأعود كل مرة لزيارة القرية التي استحالت مشروعا آخر للحكومة ، تحطم هذا البيت وتدمر ذاك لتبني مؤسسات ومراكز وغيرها ،
و بقيت *القبة* صامدة لم تمسها آلات التحطيم البشعة تلك ..
أفتح الكتاب ذو الغلاف البني كل ليلة ، أقرأ للمرة ...حسنا توقفت عن العد منذ مدة ، اقرأ تفاصيل الفقه وزوارق نجاة المؤمن ،
مازلت اتواصل مع الصبية التسعة الذين صاروا رجالا تفخر بهم روح القرية ، نسترجع تلك اللحظات ،وكيف كنا نحيي ذكرى *الشيخ* بقراءة صفحات الكتاب
والتمعن فيهاكما أوصانا ،ونبحث هنا وهناك عن دلالات المفاهيم التي يحويها .
والان نعمل على توريث تلك الجلسات ، وشغف الحصول على معرفة قيمة لمواجهة الحياة لجيل قادم
نتكهن بهشاشة ثقافته وهوان عزيمته و قصر بصيرته .
* تمت *