|||°° Birdman 2014: التحليق ما بين الخيال و الواقع، التنقل ما بين الفن و الحياة °°|||
ط¢ط®ط±
ط§ظ„طµظپط­ط©
Mohcine Saifeddine

  • ط§ظ„ظ…ط´ط§ط±ظƒط§طھ: 7873
    ظ†ظ‚ط§ط· ط§ظ„طھظ…ظٹط²: 9315
مشرف سابق
Mohcine Saifeddine

مشرف سابق
ط§ظ„ظ…ط´ط§ط±ظƒط§طھ: 7873
ظ†ظ‚ط§ط· ط§ظ„طھظ…ظٹط²: 9315
ظ…ط¹ط¯ظ„ ط§ظ„ظ…ط´ط§ط±ظƒط§طھ ظٹظˆظ…ظٹط§: 1.2
ط§ظ„ط£ظٹط§ظ… ظ…ظ†ط° ط§ظ„ط¥ظ†ط¶ظ…ط§ظ…: 6465
  • 20:03 - 2015/02/07

 

                   

 

السينما و الإنسان


  قد تكون السينما ظهرت  للوجود أواخر القرن التاسع عشر و إزدهرت في القرن العشرين، لكننا كبشر و مخلوقات ذات وعي و عقل معتادون على المضمون و الفكرة، فقد كان الأمر على نطاق فردي و غير قابل للمشاركة، أما الآن فأصبح بالمقدور مشاركة 'الأفلام' أو الرؤى السينمائية مع الغير و إمتدت الأمور إلى ما هي عليه الآن، فالسينما ليست دخيلة كفكرة على الإنسان، فلطالما كان للإنسان مخيلة خصبة، في عقل كل واحد منا على مر العصور، نصور و نخرج و نكتب سيناريوهات متعددة، في أحلامنا و رؤانا و أمانينا و ما نشتهي الوصول إليه و ما نصبوا إليه و كيف نتمنى أن يكون الواقع. الفنان الأمريكي-الكندي ''آرت لينكليتر" يقول أن البشر عرفوا كيفية مشاهدة أي عمل سينمائي، لأننا نقوم بها الأمر منذ آلاف السنين في عالم الأحلام، لهذا فالسينما كانت طبيعية، حدسية و بديهية منذ البداية، المشاهدة فطرية عندنا لأننا نقوم بها كل ليلة في نومنا، يضيف أن ما وقع و يقع مع السينما هو أن التقدم التكنولوجي إلتقى بالوعي في شكل جديد من أشكال الفن، الأمر الذي أعطانا صلاحية لولوج عوالم خيالية، سامية و راقية.


  العصرنة التي نعيشها الآن، التقدم الكبير في العلم و الطب و الميكانيك و التكنولوجيا و الفضاء...إلخ، في البدايات و الجذور كانت الأمر مجرد حلم أو سيناريو فيلم خيال علمي في مخيلة البعض و هكذا دواليك استمرت المسيرة، تلاقحت الأدمغة و الحضارات على مر العصور و الأزمنة، حتى وصلت الأمور لما عليه الآن و ستستمر على هذا المنوال. المستقبلي الأمريكي 'جاك فريسكو' تناول في إحدى محاضراته إشكالية الإبداع و العبقرية، هو أكد أن الأمر ليس وليد اللحظة أو بدون أصل، كل الإختراعات و الإبداعات لها جذور و أصول, تناقلت الأفكار و بذرة الأفكار من عقل الى عقل آخر، أستنسخت عبر الزمن و سارت و كبرت و إمتدت حتى تجلت في ذهن من سيعلنها و يخرجها للوجود, التجربة و المشاركة و تجلي النفس و بصمة الكينونة الخاصة و الإرث الحضاري كلها تلعب دورا أساسيا في التطور الحضاري و البشري، و السينما في عصرنا هي وسيلة من وسائل هذا التلاقح، في الخير و الشر.

  الرسام الإسباني الشهير 'بابلو بيكاسو' له مقولة فحواها: "كل ما تتخيله هو واقع" أما 'ألبرت إينشتاين' الغني عن التعريف فقد قال: "الخيال أهم من المعرفة،المعرفة محدودة أما الخيال فهو يحيط بعالمنا"، هنا تتجلى مجددا قوة الخيال و إرتباطه بالواقع.في السينما هناك قوة تحويلية و تأثير نفسي داخلي على المشاهد عندما يتعلق الأمر بعمل سينمائي عبقري أو جيد،عندما يلامس هذا العمل جوانب في شخصية المتلقي و يداعب مناطق حسية في دماغه، عندما يثيره ذلك الخيال الواقعي و يحثه عاطفيا و يسيره شاعريا، يطبع نفسه في العقل الباطن للمتلقي و يغيره كينونته من الداخل و يجعله يدفع تلك الحدودة الوهمية لمعرفة المزيد عن نفسه. إذن فالسينما مرتبطة بالواقع، هي وسيلة ربط ما بين العقول، وسيلة نقل تختص في نقل الأفكار و الآراء و الخيال و الواقع،
وسيلة لمعرفة حقيقتنا و ما يجول داخلنا، لإدراك هويتنا و كينونتنا، إذن فالسينما مرتبطة بالعقل، الروح، القلب و الحواس، فكما قال المخرج و الكاتب الفرنسي-السويسري 'جون لوك غودارد' : "السينما هي الحقيقة 24 مرة في الثانية"، إذن هناك رابط لا يمكن نكرانه ما بين السينما و الواقع و بين السينما و الإنسان.


  في نفس الموضوع، المنظر و الباحث الأمريكي في الفن 'جين يانغبلود' ذكر في كتابه "السينما الموسعة Expanded Cinema" أن السينما تعكس رغبة و إلحاح النفس البشرية في إظهار و مشاركة وعيها، كينونتها و أفكارها خارج نطاق الجسد و العقل أمام الملأ، كما يرى أيضا أن السينما مرآة نحملها أمام أنفسنا لتظهر لنا أنفسنا أمام أعيننا, إذن فالسينما هي جزء منا و من واقعنا, و تساعدنا على إدراكه. جين يضيف أن السينما هي تكنولوجيا لمشاركة الأحلام تساعدنا على الترحال في فضاء الحقيقة، فضاء الأصل و النموذج الأول، فضاء الميثولوجيا و الأسطورة، السينما بالنسبة له أرض سحرية غير محدودة, أرض القصص و الحكايات حيث نفقد و نجد ذواتنا في نفس الوقت.

  من منظور آخر يقول عالم النفس الألماني-الأمريكي ''هيوغو مونستربرغ': "السينما تطيع قوانين العقل أكثر من إطاعتها لقوانين العالم الخارجي". أما الكاتب الروسي 'ليف مانوفيتش' يرى أن السينما هي جوهريا فرع جديد للرسم, أو كما يحب أن يقول 'الرسم على الزمن'، فالسينما فتحت بوابة لعالم جديد, عالم لا يصور اللحظة الآنية فقط بل يتعداها في الزمن،فقد أصبح بالإمكان التعبير في بعد الزمكان، تفوق على الصورة و اللوحة الفنية في التجسيد و الإيصال و في ملامسة الروح، أصبحت السينما مثل حلم يقظة، يخيل لك السفر في الزمان و المكان، بل حتى السفر في عقل إنسان آخر، الأمر أصبح أشبه بواقع إفتراضي أو حتى واقعية حقيقية. يتعمق الروسي مانوفيتش أكثر و يقول أن تلك المحاكاة العاطفية التفريغية، و تلك الرحلة الرمزية المجازية التي يقوم بها البطل, في كل مرة نشاهد فيها فيلما ما، تصبح حقيقية بالنسبة لنا، تصبح تلك المشاهد و الصور و الأصوات ذات قيمة عاطفية و روحانية بالنسبة لنا، إذن فمشاهدة فيلم ما هو بمثابة ترحال للروح، تتحرك و تتأرجح و تتأجج ، يفسر ذلك بقوله أن المخرج يمنح حيزا زمكانيا, حلما فريدا من نوعه، فيقوم المتلقي بملأ جزء منه من روحه و يعيش فيه و يحاول إيجاد معنى و إسقاط ما يراه و يشعر به على نفسه.


  أما عالم اللغة الأمريكي 'توم كونلي' فله كتاب إسمه: "السينما الخرائطية Cartographic Cinema" يقول فيه أن السينما هي بمثابة علم الخرائط للعقل، و خريطة للوعي، تمنحنا التوجيهات في مملكة الخيال الواقعي. فكلما كبرت القوة كلما زادت المسؤولية, فالسينما كأداة و تقنية للتنوير، تجعل المخرجين و الكتاب و كل الحرفيين الذين ينتجون أعمال سينمائية أمام مسؤولية جسيمة، تتجلى في إتقان الحرفة بغية دفع النفس البشرية نحو الجمال و توسيع الوعي الاجتماعي و الفني للبشر.


  تختلف الآراء و التوجهات و النظريات، لكن القاسم المشترك بين ما تم تناوله أعلاه أن السينما ليست شيئا تافها أو فارغا، فهي كفكرة و مضمون و فن، قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الهوية الإنسانية الحديثة، السينما فن من الفنون الجميلة، و ككل شئ في هذه الحياة هناك الجيد و السيء، نرى الأفلام تتابين و تختلف في قيمتها الفنية و التقنية ، و كذا في الأنواع السينمائية و الأصناف، الأفلام منها الجيد و منها السيء، منها المتوسط و منها الأسطوري.

 

تنبيه:الفقرات القادمة تتضمن حرقا إن لم تشاهد الفيلم فلا تكمل القراءة.

   


 

أليخاندو و المسؤولية الجسيمة


  للأسف نعيش في زمن لم يعد فيه الكثيرون يحترمون تلك الروح الفنية للسينما، لكن رغم ذلك كانت سنة 2014 نقطة مضيئة في السنوات الأخيرة، عام سينمائي مثير رغم أني لم أوفق بعد في مشاهدة كل الأعمال الفنية المميزة.  

  المخرج المكسيكي الفذ 'أليخاندو غونزاليس ايناريتو' الذي تفوق على نفسه في هذا العمل الجميل، و الذي كان يعمل بمجال الإذاعة بمسقط رأسه ميكسيكو سيتي قبل التوجه للعمل السينمائي، قدم عملا مليئا بروح فن السينما، أخرج و ساهم في كتابة فيلم تجسدت فيه ماهية السينما، قدم عملا سينمائيا ثوريا و بمثابة نفس جديد لكل متتبع و شغوف بالسينما. تحمل المسؤولية و أدى الأمانة السينمائية في أن تقدم عملا فنيا و ممتعا في نفس الوقت، جسد في الفيلم الترابط ما بين الواقع و الخيال، كأنه تجاوب مع كل من ذكرنا مقولاتهم أعلاه، إشكالية الواقع و الخيال، المسيرة المجازية الروحية، التفريغ العاطفي و الشاعري، الفكاهة الساخرة من الواقع في الخيال الواقعي، التأزم النفسي و النجاح و الخسارة في الواقعية الخيالية و رحلة الروح في الحياة.

  أليخاندو قدم نوعا جريئا و صعبا من الإخراج و التصوير، لكنه رغم ذلك نجح فيه بشكل كبير، الفيلم لم يكن هين الإنجاز، بل حتى أن أليخاندرو أخبر بعضا من أصدقائه المخرجين حول الطريقة التي سيصور بها الفيلم قبل إنطلاق العمل ، كلهم رأوا أن الأمر مستحيل و لن يكون متقنا أو حتى منطقيا، لكن على العكس من ذلك، تلك الرؤية الفريدة و ذلك الإيمان و الرغبة في تجربة شئ مثير و جديد أخرجت لنا واحدا من أفضل الأفلام في السنوات الأخيرة.  فالمخرج تلاعب بذلك الخيط الرفيع ما بين الخيال و الواقع في الفيلم ليجعلنا نعيش ما يعيشه ريغان، وضعنا منذ البداية في مكانه و أرانا الأمور من منظوره، تم أتبعه بالإنتقال من هلوسات ريغان إلى السيرورة العادية بالنسبة لباقي الطاقم ، كل هذه الانتقالية و الحركية تمت بشكل متقن للغاية، تم الحفاظ على النسق الواقعي للمحيط مع إدخال و إخراج منتظم لهلوسات ريغان بشكل يحترم المنظور الأصلي المنطقي و المنظور الهلوسي التخيلي، تداخل عجيب و فذ. أليخاندرو لم يتلاعب فقط بالمنظور بل حتى بالوقت، هناك مزج في الأزمنة و المكان، في كم من مشهد في الفيلم، لكن مجددا كل شئ يظهر على أنه متسلسل.

  قبل التعمق أكثر حول الفيلم، يجب أن أذكر 'رايموند كارفر'، الشاعر و الكاتب الأمريكي الذي له الفضل في رد الاعتبار للقصة القصيرة في الأدب الأمريكي أثناء ثمانينيات القرن الماضي، اختاره أليخاندرو ليجعله الحاضر الغائب في الفيلم، بالإعتماد على إحدى قصصه القصيرة و تعديلها للمسرح في حبكة الفيلم، القصة أخذت من سلسلة قصص قصيرة اسمها "
What We Talk About When We Talk About Love" صدرت سنة 1981 و أعيد نشرها تحت مسمى "Beginners"  في نسخة مخطوطة من طرف أرملة كارفر 'تيس كالاغار' سنة 2009.

 

 

الأداء التمثيلي

 

  في السينما هناك ركائز بديهية و معلومة لكل فيلم، هي التي ترفع أو تنقص من قيمته الفنية و شهرته و إيراداته أحيانا، الأداء التمثيلي هو واحد من هذه  الركائز الأساسية، و الأمر الواضح وضوح الشمس هنا، أن الطاقم التمثيلي فريد من نوعه للغاية إختير بعناية من طرف مديرة الكاستينغ 'فرانسين مايزلر' التي كانت أيضا وراء اختيار الطاقم التمثيلي لأفلام مميزة مثل: Into The Wild،The Usual Suspects و 12 Years a slave.


  مايكل كيتون،إدوارد نورتون، زاك غاليفيانيكس، ناعومي واتس، إيما ستون، أندريا رايزبورو و أيمي رايان كلهم أسماء كبيرة في هوليود و قدموا أداءات إحترافية للغاية، مع عدم نسيان صعوبة التصوير المتتالي. فبسبب هذا النوع السريع و الفريد من نوعه في التصوير ، كان هناك ضغط كبير على الطاقم التمثيلي، لإجادة أدوارهم و تحسين أدائهم، كان يتم الأداء بدون تصوير في البروفات قبل التصوير الفعلي من أجل إجتناب الأخطاء قدر المستطاع و عدم إعادة كل مشهد من البداية، كل من نورتون و كيتون قاموا بتسجيل الأخطاء التي كان يقوم بها الطاقم كنوع من المزاح لتخفيف الضغظ و خلق جو المنافسة، الأكثر إرتكابا للأخطاء كانت واتسون و الأقل إرتكابا لها هو غاليفياناكيس، الأمر الذي يؤكد أمرا لطالما رأيته و هو أن زاك فعلا ذو موهبة تمثيلية فريدة، لكنه نادرا ما يقوم بخيارات درامية و أكثر جدية تسمح له بالتطور أكثر و إخراج كل طاقاته التمثيلية.


  من أسباب تألق كيتون و نورتن و إبداعهما في أدوارهما، هو أن شخصيتيهما فيهما جزء من حقيقتهما كممثلين, كيتون في مشهد الحوار الصحفي ذكر أنه لم يمثل دول البطل الخارق منذ 1992 و هي نفس سنة صدور آخر فيلم مثل فيه دور باتمان مع تيم بورتون، أي أن كثيرا من المشاعر المعبرة حول شخصية ريغان في الفيلم قد سبق لكيتون أن عايشها، فكما في الفيلم فهو في التسعينيات رفض عرضا بالملايين لإنجاز جزء آخر من سلسلة باتمان و ذهب دور البطولة لجورج كلوني الذي هو حاليا من أشهر نجوم هولويد، و جورج تم ذكره في الفيلم أيضا عندما روى ريغان لزوجته قصة الطائرة و خشيته آنذاك من أن تتحطم و أن لا يكون وجهه على الصحيفة في اليوم الموالي لسقوط الطائرة، لأن جورج كان معه على الطائرة، بمعنى أنه أكثر شهرة منه، هنا أليخاندرو لعب على هذا الوتر بشكل ذكي و جعل كيتون يظهر كل ما لديه، بل حتى أنه يمكن القول في لقطات كثيرة، ذلك الأسى و الإحباط لم يكن كله تمثيلا، لأنه عايشه و ربما يعايشه كل يوم من حياته في مسيرته الفنية، فهو لم يلعب دور البطولة في فيلم ما منذ سنة 2008 الأمر الذي ليس بالهين، أما بالنسبة لنورتن ففي الوسط الفني فهو معلوم عنه أنه صعب المراس و التعامل معه أثناء التصوير و شخصيته أظهرت الكثير من هذا الأمر في الفيلم بشكل جلي، فهو كان عنصرا مهما لخلق الفوضى في مسرحية ريغان بل سببا في تأزم حالة ريغان النفسية و كان سببا مباشرا له في الوقوع في عدة مواقف محرجة و مهينة.

 

 

الإنجاز التقني و الفني


  في السينما ليس هناك شئ إسمه الفيلم الكامل، تختلف الأذواق و الرؤى حول أي فيلم، لكن الشئ الثابث نوعا ما في كل واحد منها في عصرنا الحالي هو الجانب التقني، فيلم بيردمان تألق و حلق عاليا في هذا الجانب، إخراج أليخاندرو العبقري و التصوير الثوري لإيمانويل لوبزكي الرجل المكسيكي الثاني في الفيلم و المبدع في السينماتوغرافي، جعلا هذا الفيلم متعة بصرية فريدة، فالإنتقال السلسل ما بين الشخصيات و المشاهد و الغرف و الشارع و المسرح، التضمين و الدخول و الخروج من المنظور الآني، كلها تمت كما لو أن الفيلم كله صور بشكل متتابع، مع العلم أن التصوير أخذ أقل من شهر، حيث تتم البروفات عدة مرات قبل التصوير المتتالي للمشاهد، الأمر ليس هينا بتاتا و واحد من أهم نقاط القوة في الفيلم.


   معلوم أن المونتاج و الإديتنغ أو التحرير عناصر مهمة في أي عمل سينمائي، لكن هنا كل من 'دوغلاس كرايز' و 'ستيفن ميريوني' جعلوا الفيلم بشكل مدهش يظهر على أن كل الفيلم بأكمله يسير في خط زمني واحد متتابع فطوال ساعتين لا نرى سوى 16
Cuts لا غير، السبب الذي جعل العمل بأكمله يتطلب أقل من أسبوعين للتحرير. إذن فهنا نرى أنه تم تجاوز كل القوانين و الثوابث حول التصوير و الإخراج و التحرير، نحن لسنا أمام فيلم دراما و كوميديا سوداء مميز فقط، بل نحن أمام إنجاز منقطع النظير في مجال الإخراج و السينماتوغرافي.


  جانب آخر لا يقل أهمية هو السكور الموسيقي، أليخاندرو قام بشئ آخر غير معتاد و هو الإعتماد بشكل كبير على إيقاعات الطبل لا غير في معظم الفيلم، الأمر الذي أعطى نكهة نوعية و ثورية، فطبال الجاز المكسيكي 'أنتونيو سانشيز' بإيقاعاته سير النسق الدرامي للفيلم، و دفع السرد بشكل مثير. صراحة بإسثناء الطاقم التمثيلي فالعمل بأكمله إبداع مكسيكي، المخرج و المصور و صاحب الموسيقى التصويرية كلهم من أصول مكسيكية و قاموا برفع إسم بلدهم عاليا في السينما.

المسرح و السينما و النقد

  المسرح أو أبو الفنون يتطلب مهارة أكثر من السينما، فعلى الخشبة ليس هناك تعديل أو مؤثرات بصرية أو زوايا التصوير، الإعتماد فقط على موهبة الممثلين و ذكاء و حرفية المخرج، المسرح أكثر صعوبة و إرهاقا لأن الأداء حي و الضغط أكبر من عدة نواحي، و هذا ما نراه في الفيلم بشكل جلي، الضغظ النفسي، صعوبة العمل و كذا فداحة الأخطاء و تأثيرها الكارثي على العمل. أليخاندرو أدخل رابط آخر بين المسرح و السينما, ففي المشهد الذي يكون في ريغان مخمورا و يخرج من الحانة، يمشي في الشارع فيمر على رجل يصيح بعبارات، تلك العبارات هي سطور من مسرحية شيكسبير "مكبيث" و هي كلمات تذكر بعد موت الليدي مكبيث في المسرحية و هي كالأتي:
"Tomorrow, and tomorrow, and tomorrow, Creeps in this petty pace from day to day To the last syllable of recorded time, And all our yesterdays have lighted fools The way to dusty death
..."
 الأمر ليس إعتباطيا أو عشوائيا، فهناك تشابه ما بين بيردمان-ريغان و مكبيث-ليدي مكبيث، كلاهما في صراع، ريغان يضحي بماله و وقته سعيا لنجاح مسرحيته و تغلبه على الناقدة و إثباث نفسه أمام عائلته و معارفه، كما حاولت مكبيث في المسرحية العمل بكل ما لديها لعرقلة نبوءة حولها أعلنتها الساحرات ، وجه تشابه آخر هو الأشجار الراقصة في مسرحية مكبيث و في مسرحية ريغان في الفيلم.

  غوستافو فلوبير الكاتب الفرنسي له مقولة مشهورة هي كالآتي: "يصبح الفرد ناقدا عندما لا يستطيع أن يصبح فنانا، مثلما يصبح الرجل مخبرا عندما لا يستطيع أن يغدو جنديا". من الأمور المعقدة و المثيرة للجدل في مجال الفن هي النقد، أليخاندرو ضم هذه الجزئية في حبكته مثلما ذكرنا مسألة الناقدة-الساحرات، هناك حوارات أخرى في الفيلم تتطرق للموضوع، حول أن النقد أسهل من أن تقدم عملا للنقد، النقد مجرد رمي كلمات هنا و هناك، أو إبداء رأيك حول ما أعجبك و ما لم يعجبك، أن النقد مجرد رأي لا غير، أما أن تصنع عملا فنيا فهو يتطلب جرءة و شجاعة أكثر، يتطلب منك التحرك و القيام بالشيئ، ليس هينا أو بدون تضحية، و هذا ما قصده فلوبير في مقولته، رأي قد لا يتفق الجميع حوله و قد يكون له جوانب كثيرة متشعبة، لكنه يستحق التفكر لأن النقد في عصرنا أصبح يطغى عليه الحكم المسبق و الحسابات الشخصية و حال سوق الأسهم و الاعتبارات الإجتماعية و السياسية و غيرها من الأمور.

 

ريغان و بيردمان، قنديل البحر و النيزك الناري

   أواخر الثلاثينيات في القرن العشرين طرح عالم النفس الروسي 'ليف فيجوتسكي' فرضية مفادها أن الخطاب الداخلي تطور نتيجة تدخيل الخارجية أو الخطاب الخارجي، بمعنى أنه على مستوى الدماغ، يتم استعمال نفس المناطق و الميكانيزمات في كلا الخطابين، تم تأكيد فرضيته في تسعينيات القرن الماضي، حيث و بإستعمال تقنية تصوير الأعصاب الوظيفية وجدوا أنه على مستوى الدماغ تنشط منطقة بروكا في الفص الجبهي أثناء الخطابين، كما أنه على مستوى عضلات الحنجرة هناك نشاط عضلي طفيف أثناء الخطاب الداخلي. ما نريد الوصول إليه أن هذا الخطاب ليس غريبا أو مرضيا، لكن عندما يكثر فيه النقد و الاستهزاء الذاتي و الخارجي و الإحتقار و الإزدراء و الحنين لأمجاد الماضي فإنه يدل على الإحباط و الضياع و هذا ما نراه في 'ريغان تومسون' و هذا ما أراد أليخاندو إيصاله للمشاهد. هناك جانب آخر للأمر، ففي البداية يظهر الخطاب الداخلي على أنه هلوسة، و حسب عديد من الدراسات النفسية فأنواع كثيرة من الهلوسة هي في الأصل خطابات داخلية، فقط يجد الفرد صعوبة في التلقي و الإعتراف بما يقول لنفسه،و مع مرور أحداث الفيلم تزداد حدة ذلك الصوت لتأكيد تدهور حالة ريغان النفسية أكثر و أكثر.


   من الأمور الأخرى الموظفة بشكل جميل في الفيلم هي القدرات الخارقة لبيردمان، أليخاندرو لعب عليها بشكل كبير لتوضيح حالة ريغان النفسية المضطربة ، قوى التحريك و الطيران كانت بمثابة محاولة التغلب على الواقع أو بالأحرى الهروب منه و نكرانه، في كل مرة نرى أن ريغان مستاء، مهان، مستهزء، محتقر أو غاضب نراه يلجأ إلى تلك القوى الخارقة لكنها مجددا موجودة في عقله فقط، و هناك عدة أمور تؤكد الأمر فمثلا في المشهد الذي يقوم به بتحطيم غرفته في المسرح، في البداية نرى أن التحطم يتم عبر قوى التحريك، عندما يدخل عليه صديقه و محاميه جايك نرى منظورا مغايرا، فريغان يقوم بالتحطيم مستخدما يديه لا غير، الملاحظ أن المشاهد التي بها جايك و ريغان لا نرى أي شئ خارج نطاق الواقعية، بعد ذلك المشهد عندما يغادر جايك و تدخل ليزلي لتسأل ريغان عن حاله، نرى أن يده تنزف فيخبرها أنه قد جرحها أثناء الحلاقة، الواقع أنه جرحها أثناء تحطيم المصابيح في جانب المرآة أو ربما بوستر بيردمان، لكن مجددا في عقله هو يظن أنها حطمهما عن بعد، لهذا لم يجد تفسيرا لجرحه غير أنه نتيجة الحلاقة. يوم العرض الرسمي لمسرحيته و بعد إستيقاظه مخمورا نرى من منظوره أنه عاد محلقا للمسرح، لكن فور دخوله و غيابه عن المشهد، نرى الأمور من منظور آخر، سائق سيارة الأجرة يلحق به إلى داخل المسرح مطالبا إياه بدفع مال التوصيلة، إذن كما نرى كل تلك الأمور كانت مجرد هلوسات.


   شخصية ريغان من أكثر الأمور المعقدة في الفيلم، هناك فرضيات عديدة لما كان يجري و ماذا حصل حقا في النهاية، من الأمور التي يمكن أن تمنحنا نوعا من اليقين حول فرضية معينة، هو حالة ريغان النفسية، ما رأينا أنه شخص محبط, يائس و يعمل جاهدا لإعادة الاهتمام لإسمه كممثل، حالته العاطفية الغير مستقرة، الزوجة السابقة أو حتى مشاكله مع عشيقته، إبنته الذي تكرهه نوعا ما لأنه لم يكن موجودا من أجلها أثناء نشأتها، و في شجارهما كانت صريحة لحد الجرح، فوالدها فيه نوع من الأنانية و البعد العاطفي، ريغان لم يكن مستقرا نفسيا بتاتا، حتى أنه ظهر جليا أنه أيضا إنتحاري، الصعود إلى السطح، قصة قناديل البحر في الشاطئ بماليبو عندما أراد أن يغرق نفسه، كيف لم يهتم بأنه قد يموت في الطائرة، بل كان جل إهتمامه ما سينشر في الصحافة و الإعلام من بعد ذلك، شخصيته في المسرحية و إطلاقه النار على نفسه فعليا في نهاية المسرحية، كل هذه الأمور إضافة إلى واقع حالته النفسية تغلب فرضية واحدة على باقي الفرضيات، و هي أن ريغان فعلا قتل نفسه ربما في نهاية المسرحية و ربما في المستشفى، و كل ما حصل من بعد هو مجرد هلوسات الثانية الأخيرة، في بداية الفيلم نرى مشهدا سريعا لقناديل البحر مرمية على الشاطئ و من ثم مشهدا لنيزك أو جسم ناري يمر عبر السماء، يبدأ الفيلم و يستمر، بعد إطلاق ريغان النار على نفسه يبطأ نسق الفيلم، تتوجه الكاميرا إلى ضوء أحد المصابيح، ثم نرى مشهدا لنفس النيزك الناري من بداية الفيلم، هل هي الرصاصة التي أطلقها ؟ هل تلك الهلوسات لغرفة النوم المزيفة الخاصة بالمسرح، الفرقة الموسيقية عندما اضطر إلى المشي عاريا في الشارع للوصول إلى المسرح، الرجل العنكبوت، المتحلون و الرجل الحديدي و إشكاليته مع النجاح و الشهرة و الأفلام و التمثيل و الأبطال الخارقون، النيزك الناري مجددا ثم نور النافذة من غرفته، العودة للمسرح فالإنتقال إلى مصدر نور آخر، ثم النيزك الناري فقناديل البحر المرمية على الشاطئ من بداية الفيلم، هل هذه هلوسات رجل يحتضر أو رؤى آخر لحظة ؟ من الصعب الجزم و التكهن، لكن المشهد الموالي مجددا يزيد الغرابة، فجأة زوجة ريغان السابقة حاضرة لأجله في غرفة المستشفى، مسرحيته حققت نجاحا مذهلا و الناقدة التي توعدته بتحطيم عمله المسرحي تكتب عنه نقدا ممتازا بعنوان 'الفضيلة الغير معروفة للجهل' بمعنى أنه رغم جهله بالمسرح و التمثيل المسرحي، و مع العلم أنه أخذ مجازفة كبيرة بكتابة و إخراج و التمثيل في عمله المسرحي الأول، فهو رغم ذلك تفوق و أبهر، في التلفاز تقارير عن تضامن من الناس مع شخصه كممثل و ليس كبيردمان, إبنته البعيدة عاطفيا عنه تحضر له زهور الزنبق التي يحبها، مع العلم أنها كانت دائما تخطئ في إحضار الزهور الصحيحة، هل فعلا نجى و انصلحت كل هذه الأمور مرة واحدة، ضمادته كانت على شكل قناع بيردمان، في مشهد المرحاض و على غير العادة بيردمان لا يعلق بل يجلس صامتا إلى حين خروج ريغان و يودعه بكلمات قليلة و بنبرة خافتة. رمزية إصابة الأنف و حصول ريغان على أنف جديد، التغير المفاجئ في حياة ريغان، تراجع بيردمان في مخيلته، هل قتله ريغان فوق خشبة المسرح، هل أطلق ريغان النار على بيردمان الذي كان ينتقده و يمثل نرجسيته و أنانيته، هل أخيرا تخلص منه ؟ لكن نرى مجددا أن ريغان حلق كما يبدو على محيا إبنته، الآن الخيال و الواقع إختلطا، هل التحليق مجازي لنجاح ريغان أم أن كل ما جرى بعد إطلاق النار هو مجدد هلوسات رجل يحتضر أو رؤى آخر ثانية قبل الموت، فمجددا كل ما رأيناه في ذلك المشهد هو ما كان يتمنى ريغان وقوعه، و هو نجاحه فنيا و عاطفيا و تغلبه على نفسه و جعل إسم لنفسه في الفن دون الحاجة إلى بيردمان. 




الإسقاطات

   من الأمور التي أعجبتني شخصيا هي تلك الرسائل الخفية و الإنتقادات التي حشرها أليخاندرو في فيلمه في إطار الحوارات و المواقف، تم توجيهها إلى أمور كثيرة، كأن أليخاندرو يهاجم و ينتقد هوليود و النقابة و الأزمة الفنية التي تعيشها السينما، الإعلام التافه الذي أصبح بدون رقي أو إحترافية، فوضى التكنولوجيا و سوء إستعمالها في النقد و الصحافة و غيرها، البذائة و الطبقية في المجتمع، الثقافة الشعبية الحالية التي تشجع السئ و تحبط الجيد، غياب إحترام الذات و عدم التفريق ما بين الممثلين و الممثلات الموهوبين و غيرهم المشهورين لا غير، طغيان مظاهر الطفولية، النرجسية، الأنانية و اللامراعاة في الفن و في كل أشكال الحياة و التأكيد على أن الشهرة هي فقط قريبة ساقطة و فاجرة للهيبة و ليست إمتيازا أو علوا على الغير.


   تسليط الضوء على إشكالية الفن الحقيقي في السينما، و أن قيمة العمل لا تتعلق بمداخيله، فكما تم القول في أحد الحوارات فملايير الدولارات من الإيرادات هي مثل ملايير الذباب التي تعبث في القذارة، الربح ليس معيارا لقيمة الشئ أو العمل، التوجه الحالي في السينما الأمريكية تجاه أفلام الكرتون و الفاحشة و الأبطال الخرافيين و الخارقين، قيمة و رجاحة الجوائز السينمائية و إنحيازاتها، التوجهات الذي تبيد الفن و تنشر ثقافة الهراء و السخافة، مشكلة الذوق الفني لدى الجماهير و التفضيل الدائم للصخب، السرعة، الدماء، الأشلاء ، العنف، البذاءة و الإباحية على المواضيع الجادة و الدرامية و الفلسفية العميقة التي تلامس الواقع و الوجدان الإنساني. زد على ذلك فساد البشر و قيمهم و أخلاقياتهم فهم أصبحوا يرون العالم وراء شاشات الحواسيب و الهواتف الذكية، ينثرون الحقد، السخرية، الإستهزاء و  الضغينة و يختبئون في واقعهم الإفتراضي، و قليل من يعيش الحياة فعليا.

 


الختام

 

  ما يمكن قوله أن هذا الفيلم بالنسبة لي من أجمل ما شاهدت، يستحق العلامة الكاملة، إبداع تقني و فني منقط النظير، منظور مغاير و إرهاصات واقعية، الإختلاف الكبير في تسيير الأحداث و التصوير و الإخراج عن ما إعتدناه سابقا، الفيلم يمنحا تجربة فريدة و جديدة، مقاربة درامية و كوميدية سوداء للفن، النجاح، الفشل، الهوس، الإرادة، الثقافة الشعبية، التضحية، الكينونة و الطبيعة البشرية المعقدة.

   في مرآة ريغان، في الجانب الأسفل على اليمين، هناك مقولة يبدو أن أليخاندرو وضعها كرسالة يتحدى بها الجميع، مشاهدين و نقاد و غيرهم، مفادها: "A thing is a thing, not what is said of that thing"، بمعنى أن ماهية شيئ ما، هي أنه شئ و كفى، و ليس ما يقال عن ذلك الشئ. أخيرا أليخاندرو ترك تكهنات و أسئلة مطروحة حول ماذا جرى حقا في النهاية، هناك فرضيات كثيرة، موت ريغان فوق خشبة المسرح, موت ريغان بعد القفز من النافذة في المستشفى و في هذه الحالة ستكون إبنته ورثث عنه هلوساته و الصدمة كانت كفيلة بتفعيلها، أو ربما و هي حسبما أرى فرضية بعيدة المنال و هي كون أن ذلك الفاصل ما بين خيال ريغان و واقع المحيطين به تحطم و أنه فعلا خارق القوة بعد كل شئ رغم أن هناك مشاهد تدحض هذه الفرضية، المهم أنه مثلما هناك عدة فرضيات هناك أيضا علامات كثيرة في الفيلم تغلب واحدة على أخرى، تطرقنا لبعضها، ما يمكن قوله أن المتلقي هو نفسه يمكنه أن يختار ما يراه أفضل و ما رآه مناسبا كنهاية، مثلما إختار ريغان كيف ستنتهي الأمور.


8.3/10

92%

 |||°° Birdman 2014: التحليق ما بين الخيال و الواقع، التنقل ما بين الفن و الحياة °°|||
ط¨ط¯ط§ظٹط©
ط§ظ„طµظپط­ط©