القلب القاسي الذي لا يلين
كم يبلغ عدد المستحيلات في العالم؟
إن كانت ثقافتنا العربية قد حددت رقم ثلاثة للدلالة عليها،
فعليها أن تضيف إليها مستحيلا رابعا،
وهو أن يلين قلب زوجة والدي ويقرب ولو بجزء من المائة جزء التي تفصله عن قلب والدتي المختفية منذ ثلاث سنوات وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما،
أعدها عدا،
ويوما بيوم،
وكأنما الزمن قد توقف عندها؛
تلك الأم التي لم يخلق مثلها بين العباد،
والتي كانت الرحمة عينها وسط البيت وفي أرجاء الحارة، وفي فضاء المدينة من أقصاها إلى أدناها.
ولست في حديث والدتي،
وإلا لأتيت عنها بآيات مخلدات من الأفعال الحميدة،
بل إن أقوالها وحدها تتخطى بها كثيرا أقوال كبيرات القوم في المجال الصوفي.
ولكنني أخوض الآن في حديث "نور العين"،
والتي هي في حقيقتها الباطنة ظلام العين،
بل وأشد من كل ظلام في الوجود.
فيا ليتني لم أولد وأوضع في طريقها، ويا ليتني لم أعرفها في يوم من الأيام !
وما القول في امرأة،
وما الفعل معها،
وهي تأتيني ــ منذ يناعة أنوثتي ــ من بني قومها، بشاب يتلوه شاب،
وتغريهم بي،
وتمسح محياي بعين الرضا إن أنا خضعت لرغباتها وحققت لهم مرادهم؟
ولم تكن منقذتي من تلك المواقف سوى والدتي "رحمة"،
ومَن غيرها يستطيع انتشالي من وحل التردي في مستنقع الرذيلة ذاك؟
وصدَّقتُ عندها أنها ولية بحق من وليات وأولياء الله الصالحين،
وأنها صاحبة كرامات وخوارق،
تماماً كما يحكون.
كانت تتجلى أمامي بكامل قامتها،
وتشير عليّ بالرأي الصائب،
ثم تختفي.
فكنت أنفذ ما تقوله حرفيا،
وكان يأتي مفعوله للحال،
فينصرف عني الذئب تلو الذئب،
وأسلم بجلدي من شرورهم.
وفي إحدى المرّات،
أحضرت الزوجة المصون مغزلا ورامت هي نفسها إراقة دم عذريتي،
لولا أن الحيطان تحركت من حولها،
وظهر والدي فجأة،
فقلبت الأمر كعادتها لصالحها،
وأُخْرِسَ لساني، فلم أنطق بحرف.
فأنا لا أنسى يوم انتظرت عودة والدي،
وأخبرته بتحقيرها لي وتعديها حدودها في حقي،
فثارت وقلبت الأسود أبيض،
وصارت هي صاحب الشكوى،
ولما رأى الوالد انتحابها،
هرع إليّ وأمسكني من شعر رأسي،
وبرّحني تعنيفا،
وزاد فوقه ضربات مؤلمة،
فاقم ألمَها أنها كانت ظالمة، ولا شعرة فيها تنبت من جلدة رأس صدق!
ومن يومها غرس فيّ الوالد ــ من حيث لا يشعر ــ عقدة الخوف من التصريح بالمصاب.
فكنت أتكتم على ما يصيبني من أذاها،
إلى أن راكمت منه جبالا.
وأغرب من هذا كله،
أنها كانت تسألني في كل حين أمام والدي وهي تقدم لي فنجانا أو حلوى أو ملبسا أو مطعما كيفما كان:
"كيف أنا في نظرك؟"،
فكنت أجيبها والوالد يعلق عينيه بشفتيّ:
"طيبة !"،
ولو قلت غيرها، لأطعِمتُ رحيقا من حمم.
وصرت أكبر وأنمو وقلبي لا يزداد امتلاء إلا بألوان متجددة من كرهها وبغضها والحقد الشديد عليها،
والرغبة العميقة في انتهاز أول فرصة سانحة للانتقام منها.
وصارت تراودني سيناريوهات في هذا الصدد،
كان أشدها إلحاحا علي،
أن أقيدها وأحكم قيدها،
بعد أن أخبط رأسها، من الخلف، بأداة حادة لا تخطئ الهدف.
ثم أحمي الحديد وأزركشها بالكيّ وأتلذذ بصراخها يملأ أجواء المكان،
ولا أحد يسمع، فالبيت واسع، ولا يوجد به أحد غيرنا نحن الاثنتين.
ثم أسرد على أذنيها، في أثناء ذلك، كل المآسي التي جرعتني كؤوسها بالغة المرارة المستقاة من رحيق الحنظل.
ثم أصب على وجهها دفقات من الماء (القاطع)،
إلى أن يتحرّق جلدها ويتفسخ ويذوب، ويظهر عظمها، ويتحوّل بدوره إلى مادة رخوة.
ثم أرشها بالبنزين، وأشعل عود ثقاب، وأرميها به،
وأولي هاربة إلى أبعد مكان،
وليكن بعدها ما يكون.
رحت أعد العدة لتنفيذ خطتي.
كشمشون ذاك الجبار، عندما فقد بصره، واسترد قوته، هدم الكل عليه وعلى أعدائه؛ كذلك اعتزمت أن أفعل.
شيء واحد سأراعيه: ألا ينهلك معها أحد آخر غيرها.
وعندما أشرفت على التنفيذ، ظهر أمامي طيف الوالدة، وقالت لي بلسان فصيح:
ــ ما أبرد القلبَ فعلُ انتقام قط، وإنما رفعُ المظلمةِ للخالق الأعلى، وهو يسمع ويرى، وهو الأقرب إلى الخلق من حبل الوريد.
وهبكِ أنهيتِ ما انتويتِ فعله،
فأين تفرين من هاجس تأنيب ضميرك؟
فسواء أعشت في قصر أم في قبو، فإن وخزات ضميرك لن يحميك منها حامٍ.
ولكنني هذه المرة لم أسكت، فقلت لأمي متذمرة:
ــ ألا ترين ما تصيبني به من ألوان الهوان؟ فإلى متى هذا الصبر أشتري به رضا الوالد؟
ــ لا تفكري في رضا المخلوق، واستحضري دوماً رضا الخالق.
ثم انطفأ نور طيفها، وصرت وحيدة أستعيد في مخيلتي شريط ما دار بيني وبينها من حديث،
انتهى بي إلى أن أحمل عدتي وأتدرج بها نحو الباب لأتخلص منها في صندوق القمامة.
ولكن، ويا لدهشتي، وجدت نور العين واقفة أمامي، وفي يدها خنجر، وقد غرست يدها الأخرى في خصرها، وراحت تتراقص وهي تقول:
ــ إلى أين يا خيبة لم تر الدنيا خيبة مثلها؟
أتظنين أنني كنت غافلة عن أحابيلك؟
أم أنني غبية أنام على أذنيّ وفي جحري أفعى ذات أنياب مسمومة مثلك يا ابنة التي لم تعرف كيف تربيك وتؤدبك؟..
في تلك اللحظة، أظلمت الدنيا في عينيّ، ولم أدر ما حدث ولا ما أقدمت عليه من فعل.
فتحت عينيْ وعيي في سرير بالمستشفى، وكان بالقرب مني فتاة سرعان ما أدركت أنها ابنة عمي ريما.
ما إن استيقظتُ، وعطستُ ثلاث مرات متتابعة، حتى لهج لسانها بحمد الله وشكره.
ومنها عرفتُ أن مصادمة وقعت بيني وبين نور العين،
وأن الوالد حضر في تلك اللحظة صدفة،
وأنه حاول التدخل لحمايتي،
فانغرس الخنجر في أحشاء الزوجة،
على غير رغبة ولا إرادة من والدي.
وكانت قد أصابتني قبلها بضربة بليغة في الرأس،
فسقطنا معا أرضا،
إحدانا صريعة والأخرى غائبة عن الوجود.
واعترف الوالد بما نزل، فكان مصيره أن يقبع وراء القضبان.
فيا لهول ما حدث !!
في المساء، ظهر طيف أمي، وقالت:
ــ قد انكتب لكِ عمر جديد يا سليمة، فلتعرفي كيف تصرفينه كله في طاعة الله،
واعتبري مما حدث؛
فطالما أنتِ على قيد الحياة، فلا أمان من مكائد الدهر وغوائل الحدثان.