تسارعت أنفاسها و هي تخطو في تردد نحو المكان الغريب، الجدران حالكة يغلب فيها السواد على البياض، جلود حيوانات ضارية معلقة في عشوائية على الحيطان، رأس جدي محنط يرمق الوالج في برود مقيت، شهقت رعبا و هي تنظر إلى الرأس في توجس و تهمس لنفسها بصوت مرتعش "بسم الله الرحمن الرحيم"
تقدمت مرتعشة الجسد و الفؤاد نحو المكان الذي ترقص أركانه على أنغام الخرافات، بدأت الهواجس الملحة تعبث بروحها و تدعوها للهرب فلا شيء في هذا الكون كله يستحق أن تكون من أجله هنا، لم لا تعود أدراجها؟!!
خطت إلى الخلف و عيناها معلقتان بالرأس المحنط، هل تحركت عيناه أم أن خيالها المرعوب يعابثها في قسوة؟!! لا بد أن هذا المزيج الخرافي من المناظر الغريبة حرك خيالها، رائحة الأعشاب المحترقة تجعل رأسها يدور و وعيها يتسرب بعيدا عنها بينما يتسلل خدر غريب إلى كل أطرافها، تجمدت قدماها في الأرض و عيناها ترمقان في رعب عينا الرأس المحنط وهمست بصوت واهن "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أعادت لها الجملة صوابها فاستدارت في عزم نحو الباب الذي دخلت منه تبغي الهرب من هذا الجو الخانق، خطت خطوة واحدة لكن صوتا عميقا خشنا زأر في المكان "توقفي!!"
أطاع جسمها الكلمة فوقفت تنتظر مصيرها بينما ظل عقلها يحثها على الرحيل بلا انقطاع
"لماذا جئت؟"
استدارت تنظر إلى صاحب الصوت، من أين جاء؟ كأنها به ظهر من العدم، لقد كانت الغرفة عارية منذ لحظات، كان رجلا متشحا بالسواد، يرتدي ما يشبه عباءة فضفاضة و يعتمر غطاء رأس ينزل على أعلى عينيه فيجعل نظرته قاتمة و مرعبة في نفس الآن، يرمي غبارا سحريا على النار المدللة أمامه فتزداد دلالا و يرتفع الدخان الخانق ليزيد المكان قتامة و رهبة
"ما الذي أتى بك يا سلمى؟"
شهقت و هي تسمع اسمها يغادر شفاهه الغليظة، من أين عرفه؟!! حاولت مرارا تحريك قدميها لتهرب تاركة خلفها هذا الوكر الأسود، لكن رائحة الأعشاب التي تسيطر على الجو سيطرت على حواسها و حاصرت وعيها الضعيف فما عادت أعضاء جسدها المرتجف تطيع أوامر دماغها النصف واع، تحركت شفاهها بلا إرادة منها و هي تقص عليه لواعج صدرها و نارها المستعرة في جوفها و سهرها المزمن في انتظار التفاتته إليها، حب لا يهمد، لا تهزه الريح و لا يطفئ لهيبه الزمن، رجل جميل المحيى و الخصال، طفولي البسمة رجولي الأفعال، هواه مرض ألم بها مذ بدأت التمييز، انتظرته سينينا طويلة، انتظرته طفلة على أعتاب المراهقة تحاول لفت انتباهه بشتى الوسائل و انتظرته مراهقة بأحمر شفاه مسروق و انتظرته شابة يافعة بصدر عامر و قوام يذيب الصخر و ها هي اليوم مازالت تنتظره و هي في منتصف العقد الرابع من عمرها الذي أفنته في هواه، مرعوبة من الشعرات البيضاء التي بدأت تغزو مفرقيها في قسوة، مرعوبة من الليالي التي تتوالى و هي وحيدة في غرفتها الباردة.
كان صدرها يعلو و يهبط في انفعال كبير قبل أن تنطق شفاهها بصوت كالفحيح "إما أن تشفيني من هواه و إما أن تحضره إلي راكعا"
هز الرجل رأسه و شبح ابتسامة خبيثة يرتسم على وجهه الرابض تحت ظل العباءة السوداء، مد يده إليها في صمت فأخرجت صورة من طيات ثوبها لتضعها بين أصابعه طويلة الأظافر، أمسك الصورة يتمعن النظر فيها ثم طفح يتلو تعويذات غريبة جمدت الدم في عروقها، أشياء غريبة يفعلها باحترافية كبيرة أدارت رأسها فلم تستعد وعيها إلا و هي في الشارع و في يدها رزمة صغيرة بحجم حبة المشمش، لا تعرف محتواها لكنها تعرف أن عليها إحراقها أمام عتبة بيت جارها الذي لوع فؤادها منذ صباه.
ابتسمت لشمس الصباح و هي تغزو ستارة غرفتها و خياله يداعبها ككل صباح، تمطت في كسل و هي تحلم باللحظة التي سيأتيها خاضعا معترفا بهوى في صدره يفوق ذلك الذي عاشت به مذ رأته عيناها،سمعت طرقا خفيفا على باب غرفتها تلاه صوت "زينب"، المرأة الكادحة الطيبة التي تنظف كل شقق العمارة، كانت تنظر إليها بعينان معاتبتان "ما الذي فعلت يا سلمى؟؟!! لقد ضيعت نفسك يا فتاة!!"
كانت سلمى فاغرة الفاه عاجزة عن الرد محاولة فهم ما تعنيه زينب، لكن تساؤلها لم يدم طويلا إذ استرسلت المرأة البدينة في الشرح "أنت تعرفين الأستاذ كمال أليس كذلك؟ بل تهيمين به لا تنكري، لكنك أضعت فرصة عمرك في الدخول إلى بيته من أوسع الأبواب، لقد سمعته بالصدفة و أنا أنظف بيته يطلب من أمه خطبتك لكنها أخبرته أنك فتاة مشعوذة تأتي السحرة و العرافين و أنها رأتك بأم عينها تغادرين بيت أحدهم و أنت تتلفتين يمنة و يسرة و يبدو عليك ذنبك العظيم كسحابة سوداء ترافقك أينما ذهبت..."
عضت المرأة على شفتها السفلى و هي ترى شحوب سلمى ثم أضافت "لقد استعاذ بالله العظيم منك و من أمثالك...لماذا فعلت ذلك يا مجنونة؟؟!!"
ضباب كثيف يغشى بصرها، لقد فعلت الصرة مفعولها لكن أمه تدخلت، زمت شفتيها في تصميم و هي عازمة على زيارة الشيخ مرة أخرى