كــِـذبةٌ حـكيـــــمَـة عبدو عيني
قـُبيل عيد الأضحى ، لومٌ عنيفٌ تهاجمني به زوجتي ، من صميم أغوارها ينبعث كعاصفة هوجاءَ توّجتْ هدوءَ صباحي بالنـّكَـد ، تصرخ ، تزمجر ، تـلحّ ، ثم لا تكاد أن تهدأ فتثور من جديد كلما سمعتْ ثـغاءَ كبش الجيران ، تأخذها حُمى الانفعال ، زفرة متأفـّفة تحملها إلى البكاء ، فتذرفُ دمعا رقراقا لتصاريف القدر .
أهـُمّ بالفرار من البيت ، توقفني متوعـّدة بسبّابتها ، " إياك و العودة مساءً من دون كبش العيد !" يبدو إلحاحُها بمثابة أوامر صارمةٍ لا بدّ لي من تحقيقـها و إلا ...!؟ أحدق بها و الجسدُ تهزّهُ الارتجافات ، ببراءة أرفعُ رأسي متمتما ، " و ما ذنب جيبٍ مثقوبٍ قـدَّ أطرافه غلاء المعيشة المـلتهبة ؟ " لم تزدها لهجتي البريئة إلا التهابا ، تنتفض ، تقاطعني و في حـِمى عينيها دمعٌ متربص ، " كفى براءة ! ما قـدَّ جيبـَكَ غير سدّادات الليالي الحمراء و مقابض السوالف الشقراء ."
من الضاحية رحتُ أجرُّ أذيال الفشل ، في رأسي تزدحم التساؤلات عن كيفية الحصول على مبلغ الأضحية ، جيبي المثقوب يقهقهُ لمشهد المسرحية ، أمدُّ يدي تارةً إلى داخله و كأنهُ القادرُ الملآن ، تلامسُ أناملي زغـَبَ ركبتي ، و سكينُ الفشل ينحرني قبل نـَحر الأضحية المفقودة . " يا لجيبٍ غار الدرهمُ فيه ليستوطن أحشاءَه الزّغَب !!"
عند مفترق الطرق ، إحساسٌ غريبٌ ظلّ يراودني ، جزءٌ من قلبي يرغمني على الاتجاهِ نحو المدينة لعل تفاؤلي يكرمني بكبش العيد ، و جزءٌ آخر منه يهفـو إلى شقّ الطريق الجنوبية ، حيث الشيحُ و الريح و البيداء و لا رابع لهم غيري .
موغلا في صمتٍ ينتابـهُ بريقٌ من أمل ، أجدُني وسط المدينة ، بالصدفة ، تقودُني الأقدامُ التائهة إلى ميدان فنون الحـلـْقة ، حيث الجماهيرُ تتجمع حول البهلوانيين و مرودي الثعابين و "أطباء " الطبّ البديل . أجلسُ القرفصاء ، أراقبُ كل مشهدٍ بتفاصيله ، مُلاحظة ، أناسٌ محترفون في فنّ الحلـقة ، الدّرهم يـطنّ من حولهم ، ملامحُ الرضا تتضحُ بارزة على وجوههم المبتهجة ، لمَ لا ! إذ لا يزالُ في خلق الخالق الكرماء السذج.
فكرتُ ملـيا ، خاطرةٌ جهنميةٌ تخطرُ لي مفادها أنه بإمكاني أن أمتهنَ فنّ الحلقةِ لأول و آخر مرّة ، تفاصيلُ الفكرة تبدو حاضرة ، أن أجمع من حولي الجمعَ الغفير ، أن أقنعهم بامتلاكي لدواءٍ فعال ، و أن أشدّ خيط الحذاء جيدا قصد الفرار من بين الحشود بعد جمع المال .
يا لجرأتي ! وجدتني فجأةً أتوسطُ الميدان ، أضعُ يدي على أذني ، أطلقُ العنانَ لحنجرتي :" أيها القوم ، لستُ بالمحتال و لا الدجّال ، لستُ ممن يبع الرّوث كدواءٍ يتحدى الأمصال ، لست ممن يُراقص ثعبانا يفقد أنيابا تختزن السمّ الفعـّال ، هلموا جميعُكم لأتبرع عليكم بوصفةٍ سحريةٍ ثمنها عشرة دراهم ، و قيمتها كنوز فرعونَ و قارون ، هلموا و إن كذبت فافعلوا بي ما أنتم فاعلون !! "
يا للروعة ، تبدو الحلقة من حولي جدّ مكتظة ، الوافدون من مهتمٍّ و فضوليّ يندفعون ، خطةٌ ناجحة ، يكفي أن أبدأ بتنفيذها خطوةً بخطوة ، خطوتي الأولى ، جرابٌ يبدو ممتلئـاً أضعُهُ في محور الحلقة ، " هي ذي الوصفة السحرية ، دواءٌ لكل داء ، ادفعوا الثمن أولا تروا بعدها عجباً !" الخطوة الثانية و قدماي تطوفان حول الحلقة ، يداي تجنيان دراهم شتى ، يا للحظ ، ما هذا ؟ مبلغٌ جيد ، خمسون مُهتمـّا بخمسمائة درهم ، في ضاحيتنا ، يؤمن المبلغ رخلة ضأنٍ لا بأس بها ، خطوتي الثالثة و الأخيرة ، عيناي تبدآن البحث عن فجوةٍ من بين الجموع تؤمن لي مسلك الفرار ، يُمنةً و يُسرة ، أمامَ و خَلف ، أواااه ! لا فجوة هناك على الإطلاق ، كالثعلب في حفرة الفخّ ، أتسمـّر في مكاني ، إحساسُ الغباء ينتابني ، موقفٌ كهذا لم أكرس له خطة رابعة .
لم أستطع الحيلولة دون شعوري بالخوف ، رباااه ! من سيقتل شبح الخوف اللحظة ، أطيرانٌ من فوق الحشد سبق و أن عجز على تحقيقه ابن فرناس ، أم دموع ابتئاس قد تشفـّعُ لي و تعبّرُ للحضور عن وضعيتي البائسة ؟ .
ناطقٌ من بين الرواد ينطق بصوتٍ خشن، و كأنّ العفريت أدرى بما يجول في خاطري، " هيا يا هذا ! ماذا عن وصفتك السحرية ؟ و يلاه ! لا شكّ أنها الطريق إلى العصا ، قلبي ينبض بشدّة ، سيولُ عرق تلو الأخرى تـبـلـلـُني ، صوتٌ آخر يطالبني بالوصفة ، و النوبةُ الهستيرية تتملكني ، تقودني إلى اللهاث ، أرتعش ، أبرز للجمع جيبي المثقوب كجوابٍ صريح ، من دون وعي أصيحُ و العينان تذرفان :" أيها الكرماء ، فليخبر الحاضر منكمُ الغائب ، أنظروا إلى هذا الثقب الملعون ، حاولت خياطته مرارا دون جدوى ، و هاهو اليوم يمنعُ أبنائي من فرحةِ العيد ، و وصفتي السحرية إليكم مفادُها ، إذا ثـُقبتْ لكمُ الجيوبُ يوماً ، ليس الحكمة في الإبرةِ و الخيط كما تعتقدون ، بل جوهرُ الحكمة و لـُبـُّها في ربطة ذيل الخيط ، اسمعوا و عوا ! حكمة ليلى في ذيل قيسـِها ، شدوا ذيل الإبرة و الخيط بكل براعةٍ و إتقان ٍ و إلا ... فشل الترقيعُ و استوطنَ الجيبَ الصقيـــــــــــــــــــــع .
يضحكُ معظم الروادِ و يصفق قليلـُهم بشدّة ، تتفرق الجموعُ على نداء صلاة المغرب ، أحدهُم يبدو مـُهـمـّاً يتأخر ليهمسَ في أذني مبتهجا : " و نـِعمَ الحكمةِ كِذبتـُك يا هذا ، اتبعني لـتأخذ ثمنها كبشا أقرنــــــــــــــــــــــا ."
أرجو من إشراف القصص قبول قصيدتي في هذا الركن
لا لشيء إلا لأن القصيدة تترجمُ النصّ أعلاه و شكرا .
عيدٌٌ و ما العيـدُ عـِــــندي غيرُ ضائـقةٍ لـَهيبـُها الجـَـيبُ يومـــاً حيـنَ أسألـُـــــــهُ
تـُراك ليثٌ رعـَى شــــــاة بـمِجمرهــــا أم أمـْلـَحٌ بيـــن جـَـمرِ العيـدِ مِحـــمـَلـُــــهُ
قالتْ و في قولهــــــا لـومٌ يـُطاردنـــي أم خـــِنجرٌ فوق نـَحـــرِ العــيـدِ مِقصلـُــهُ
يا مَـن تراهُ الأهالـــــي تاج ناصيتــِِي أودُّ قـــَرنـاً عَــلا في الدّربِ تــَعـتِـــــلـُـــهُ
فلستُ أهوى عـِــــجافاً مِن ذوي كرمٍ و لا ابتـِئاساً يظـــَلُّ الجــَارُ يـَنقـُـــلـُـــــــهُ
فربّ ابنٍ بـَكى في العـيــــــدِ يـُسعِــدُهُ و ربّ كــَبشٍ جـَفـــا بالحـَسمِ يُـــنزلـُـــــهُ
قلتُ الغـَلا قــَدَّ لي جيبــــــي فبـِتُّ لـَهُ كـَبشاً إلى مـَذبـَح الخـِرفان مـَوصِــــــلـُهُ
ما ذنبُ جـَيبٍ بـَكى ثـُقــــــباَ ألـَـمَّ بـِهِ فاستحسنَ الحـَتفَ فوق الرأس يجعـَلـُـهُ
لا الشاة يومئـــــذٍ أدرى بـِمأتـَمـِهـــا و لا السّــرايا تـَعـي ضيقــاً تـــُــــماطـِلـُهُ
كفـــاك حُبـّي عــِتاباً ليس أنت لــــََهُُ فهـِجـــرُ كــَبشٍ تعــَالى الرّبُّ يـُوصِلـــُـهُ
قالتْ و في الصّدر أنفاسٌ تُحشرجُهُ و في حِمــى العــَينِ مـِنديــلٌ تـُبلـّــــــِلـُــهُ
ما قـَدَّ جيبُــكَ بـَعـلي غـــــيرُ غانيةٍ تــُقايضُ الجــَيبَ عـِشقـــاً ثمّ تـَـــــنشِلـُـهُ
عيدٌ و ما العيدُ عندي غير أحجــيةٍ في كِنفـــها لغــزُ قــَبرٍ أنــــتَ مـِعـــوَلــُـهُُ
قلتُ الذي ردعَ الأنعامَ عن قـِصعي سيـَــردعُ الجــــَيبَ عـــَوزاً لا أبـــــــجـّلـُهُ
رَحماك ربّ كباشٍ أنتَ مانـِحُــــها فهـَــــبْ لعـَـــبدِ بـَغـــى أجـــراً يـُكمـّلـُـــــهُ
عبدو عيني 30/09/2014